القسم الأول: من الإتيقا إلى السياسة
هل نستطيع قراءة السياسة بمعزل عن نسق الإتيقا
الفلسفي ؟أم أن السياسة متضمنة في الإتيقا ؟ هل يمكن أن نقول إن السياسة نتيجة
حتمية وضرورية للإتيقا ؟ و ما الهدف من الإتيقا ؟ هل نعتبر هذا النسق ثورة على كل
التصورات الأخلاقية السابقة عليه ؟ و أين تتجلى جدّة الإتيقا ؟
لن يكون بمكننا أن نفهم العلاقة بين الإتيقا
والسياسة دون أن نقف عند هذا النسق الفارق في تاريخ الفلسفة، باعتباره انطولوجيا
أرست معالم تصور جديد؛ بل هو ثوري في تاريخ الفلسفة، يُشكل قطيعة مع كل الانطولوجيات
السابقة التي تكرر نفسها. كما انصرفت إلى بناء تصور جديد للوجود، بإحداث تصنيف آخر
بعيدا عن كل تصنيف أخلاقي قيمي للموجودات مثلما هو الشأن في ميتافيزيقا أفلاطون و
أرسطو، حيث لم تعد إتيقا "سبينوزا" تميز بين الموجودات على أساس شيء
سامي متعال؛ و إنما من خلال أساس محايث. و بوصف الإتيقا انتربولوجيا وضعت أخلاقا
جديدة لإنسان حر وسعيد دون أن تسقط في ثنائية الروح والجسد، تعطي الأفضلية للروح
على الجسد أو تجعله تابعا لها، لذلك ليس شططا في الحكم القول إن سبينوزا يشكل
منعطفا في تاريخ الفلسفة بالتفكير في الجسد
والرغبة و الانفعالات متخلصا من كل تصور يرتكز على مفاهيم الخطيئة والشر...
سينصرف هذا القسم، إذن، إلى التفكير في هذه
العلاقة بالوقوف على الثورة التي أحدثتها هذه الانطولوجيا الجديدة، ببنائها لتصور
جديد للوجود .
.
الفصل
الأول: الإتيقا بوصفها انطولوجيا
1) . من
الجوهر المفارق إلى الجوهر المحايث
شكلت
الديكارتية قطيعة مع اللحظة المدرسية ومع
فيزياء أرسطو وكذلك ميتافيزيقا أفلاطون، حيث جاءت في سياق الثورة الفيزيائية التي
أحدثتها فيزياء غاليلي، فرضت على ديكارت أن يعبر عن هاته القطيعة فلسفيا. وتتجلى هذه
القطيعة في إعادة بناء تصور جديد للعالم؛ تصور رياضي يقطع بشكل مطلق مع كل
التصورات الأخلاقية للعالم. إنها تصورت العالم تصورا رياضيا كامتداد هندسي يخضع
لقوانين العلم. فمع غاليلي اختفى التصور المتناغم المتناسق للكون وحل محله التصور
الرياضي الميكانيكي، يقوم أساسا على مبدأين رئيسين، هما " سقوط الأجسام"
و " القصور الذاتي". ولعل ظهور هذين القانونين العلمين فرضا على فيزياء
أرسطو الاختفاء لأنها لم تعد قادرة على الاستمرار. فلم يعد الفراغ في الفيزياء
الحديثة عائقا أمام الحركة كما الشأن في فيزياء أرسطو بل صار هو الشرط الذي
يحققها، وتتجسد فيه كواقع لها [1].
لقد
حولت الفيزياء الغاليلية الواقعي إلى رياضي، وانصرفت إلى البحث في حساب التغيرات
التي تقع أثناء سقوط الأجسام دون أن تعيد القانون الأرسطي القائل إن الأجسام تتحرك
شوقا إلى محركها الأول لأن الحركة حاصلة فعل الروح الذي لدى كل جسم؛ بل هي بالأساس
نتيجة قوانين ميكانيكية. ستتحرك إذن الأجسام في هذا التصور الحديث للعالم بفعل جسم
آخر، وتستمر في الحركة ما لم توقفها أجسام آخر.
لن يكتفي ديكارت أمام التغير الذي لحق تصور العالم
فقط بمجرد الإعجاب به؛ وإنما تحويل هذه التصور الحديث، الذي غير الفكر الغربي وفرض
عليه القطع مع ماضيه الميتافيزيقي أو اللاهوتي، بل حولها إلى فلسفة ميكانيكية
تخلصت من الأفلاطونية والأرسطية اللتان طابقتا بين الوجود والقيم، وعملت على إدراك
العالم هندسيا، لذلك ليس من باب المبالغة القول إنها شكلت بداية الفكر الحديث، وما
" مقال في المنهج" إلا فعل بناء طريقة جديدة في التفكير و في النظر.
لكن هذه الفيزياء الحديثة تحتاج إلى أساس يضمنها،
وهو ما لم يفكر فيه غاليلي، أي الأساس أو الضمانة الميتافيزيقية المتمثلة في وجود " إله" يضمن هذه
الحقيقة الجديدة، وهي المهمة التي دفعت ديكارت
إلى كتابة "تأملات ميتافيزيقية"[2].
يقوم تصور ديكارت على أساس " نظام
العلل"[3] ينطلق من الإنسان إلى الله
ثم العالم، حيث، بدءا، يثبت ديكارت أنه " شيء مفكر" ثم ينتقل إلى إثبات
وجود الله بوصفه حقيقة توجد بعد بديهية الذات المفكرة. والدليل عند ديكارت على
وجود الله هو أن وجود الأشياء الذي يتميز بالوضوح والبداهة يحتاج إلى علة لكي
توجده، فلا شيء يوجد من عدم بل هناك علة أولى قدمت شروط وجوده، لكننا نصل في
الأخير إلى علة واحدة لهذه العلل الجزئية تتميز بالكمال والوجود، وهي "
الأصل". ويعرف ديكارت الله، بوصفه علة الوجود على أنه " جوهر لامتناهي،
مستقل، عليم، قدير، وعبره خُلقت أنا، وأيضا كل موجود آخر "[4].
فديكارت يستنبط فكرة وجود كائن كامل لا متناهي انطلاقا من وجوده، لأن فكرة
اللاتناهي موجودة في هذا المتناهي ف" كيف أعرف، في الواقع، أني أشك، أرغب، أي
ينقصني شيء ما و ولست كاملا، إذا لم يكن في ذاتي أي فكرة لكائن أكثر كمالا
بالعلاقة مع ما عرفته من أخطائي"[5].
وتتنزل فكرة وجود الله منزلة الوضوح والبداهة والتميز بحيث تفرض نفسها على العقل
"على العكس إنها تملك أرفع درجة من الوضوح والتميز، و تتضمن واقعية موضوعية
أكثر من غيرها"[6]، ويضيف ديكارت تعليقا على
فكرة وجود كائن كامل لا متناهي " أقول إن فكرة كائن في منتهى الكمال و
اللاتناهي هي الأكثر حقيقة"[7]
ليس
الهدف هو الوقوف عند فكرة وجود الله عند ديكارت كضمانة ميتافيزيقية للفيزياء
الجديدة، بل نستهدف التقديم لفكرة الجوهر عند سبينوزا، التي شكلت ثورة على
التصورات السابقة لله أو الجوهر، ومنها الديكارتية على الخصوص. إن ديكارت يستعرض
كل الحجج التي تبين وجود الإله بنفي إمكانية وجود كائن آخر يتميز بالكمال قادر على
الخلق؛ حتى الذات نفسها، لأنها لا تستطيع أن توجد دون وجود الله ، لكن هذا الإله
يوجد خارج هذا العالم، يتدخل باستمرار ليحركه انطلاقا من مبدأ العناية.
يرفض سبينوزا التصور الديكارتي للجوهر أو الله.
ليؤسس تصورا جديدا يقوم على مفهوم " المحايثة"؛ و هو المفهوم الأكثر
جاذبية عند سبينوزا بوصفه ثورة في تصور الوجود يقطع مع السكولائية و الديكارتية،
فهو يعتقد في رأي مخالف في الله والطبيعة.
لا تبدأ السبينوزية من المتناهي لكي تصل إلى
اللامتناهي في سلسلة العلل الأرسطية؛ بل تنطلق من الله/ الطبيعة نحو الموجودات،
وتتحرر من كل موجود متعالي أو مفارق يوجد خارج الطبيعة، ولذلك خصص كتابه "
الإتيقا" في جزئه الأول للحديث عن الله بوصفه علة محايثة لمعلولاتها. ويلجأ
سبينوزا في كتابته إلى المنهج الرياضي، حيث يُقدم لمؤلفه بتعريفات منها يستخلص
بديهيات أي قضايا لا تحتاج البرهنة، منها يستنبط قضايا يبرهن عليها. و يعرف الجوهر
على أنه " هو في ذاته ومدرك بذاته، أي
الذي لا يحتاج مفهومه إلى مفهوم شيء آخر يشكله"[8]، ويستخلصه من تصور للفكرة الحقيقية أو المطابقة،
التي تعني الفكرة حاملة لعلامة صحتها بذاتها. ويعرف الله " كائن لا متناهي
بصفة مطلقة، أي جوهر متكون من صفات لا متناهية، كل واحدة تعبر عن ماهية خالدة و
لامتناهية"[9]. فالفكرة الصحيحة بذاتها هي
التي لا تحتاج إلى شاهد خارجي مثلما الشأن بالنسبة لفكرة وجود كائن لا متناهي
ومطلق، لأنه إذا ارتبط وجوده أو تعريفه بشيء آخر لانتفت عنه صفة الجوهر. إذن وجود
الله يستنبط من تعريفه. و الملاحظ في هذا التعريف، أن سبينوزا لم يلجأ إلى سلسة
العلل الموجودة في الميتافيزيقا الأرسطية، التي تقول إن سلسلة العلل تتوقف عند علة
أولى مفارقة لكل العلل، بل ابتدأ من علة مكتفية بذاتها هي الجوهر أو الله أو
الطبيعة التي تفيد ذات المعنى. فالعلة بذاته ليست إلا ميزة أو واحدة من خصائص
الجوهر، بحيث يدرك بعلته حين نقول إن الله علة كل الأشياء وعلة نفسه، هي مبدأ
وجوده ومعقوليته ( لا يعقل أن يسمى جوهرا وهو يستمد وجوده من شيء آخر) " إذا
أردنا البحث عن علة لهذا الجوهر الذي هو مبدأ الأشياء المستخلصة من صفته، سيكون
علينا البحث أيضا عن علة هذه العلة، ثم علة هذه العلة الجديدة وهكذا إلى ما لا
نهاية، بحيث إذا أردنا بالضرورة التوقف، كما يجب علينا، فمن الضروري التوقف عند
هذا الجوهر الواحد"[10].
إذن علة وجود الجوهر ليست موجودة خارجه؛ أي خارج ماهيته انطلاقا من القضية السابعة[11]
كما أنه علة كل الموجودات الأخرى التي لا يمكن أن تدرك إلا من خلاله. غني عن البيان أن نقد السبينوزية لكل الفلسفات
السابقة كان من خلال قولها بوجود أكثر من جوهر وهذا لا يستقيم أمره داخل النسق
السبينوزي الذي يشــدد عــلى أن في الطبيعة لا يوجد غــير جوهر واحد يملك صفات لا متناهية العدد
تتجسد في الواقع من خلال أحوال وكيفيات وجود، يقول سبينوزا " الله هو علة محايثة وليس متعدية لكل الأشياء "[12]
، فالعلة المحايثة هي أن كل موجود يوجد في الله، ويتصور عبره، وليس متعاليا أو
متعديا، بمعنى لا يفعل بذاته و لكن من خارج. وقد برهن على ذلك عديد مرات بتشديده
على أنه علة الأشياء التي توجد فيه لأن
شيء خارجه .
يتماهي الله مع الطبيعة عند سبينوزا ويصيران جوهر
واحدا، متناهي ومطلق الوجود. فإذا كان الجوهر هو الذي يدرك بذاته و لا يمكن أن
نتصور شيئا إلا عبره فإن الذي يُحمل عليه هذا التعريف هو الله.و يقر سبينوزا في هذه القضية أنه " لا يمكن أن
يكون في الطبيعة جوهرين أو أكثر من نفس الطبيعة والصفة"[13]،
وهي بذلك تؤسس لتصور جديد يقوم على القول بوجود جوهر واحد في الطبيعة، لأنه من
طبيعة الجوهر ألا يكون مرتبط في وجوده أو تصوره بشيء آخر و إلا لما سمي بالجوهر،
وعليه فإن في الطبيعة جوهر واحد هو الله أو الطبيعة " إن كلمات طبيعة وجوهر و الله هي كلمات مترادفة عند سبينوزا.
إنها تفيد تلك الحقيقة الفريدة التي لا تكون كل الأشياء الموجودة إلا أحوالا
لها"[14].
يؤمن سبينوزا بوحدة للوجود تؤدي إلى القضاء على
فكرة انفصال الله عن الطبيعة كما الحال في الديكارتية، التي تضع الله كلامتناهي في
مقابل الطبيعة و الأشياء المادية ، و هي الوحدة التي تهدم كل مفارقة تؤدي لزاما
إلى هدم فكرة الغائية، بحيث لم تعد الطبيعة مخلوقة لغاية إلهية، بل إن الجوهر
الإلهي صار محايثا للطبيعة يخضع هو ذاته إلى قوانين الطبيعة الضرورية التي هي
عينها قوانينه، ومن هنا يصير الخلق خاضعا إلى هذه الضرورة فينهار بذلك أس من أسس
تصور ديكارت لله و هي " الخلق الحر"، التي ترتبط بتصوره لله كعلة مفارقة
ومتعالية ، فكل شيء يخلقه الله بموجب الضرورة يوجد في ذهنه، وحين يخلقها فهي لا
تكون غير ما هي عليه في ذهنه لذلك فالأشياء التي توجد الطبيعة هي عينها التي في ذهن الله وستبقى على
ما هي عليه. لا يشكك سبينوزا، إذا، في أن الجوهر موجود بالضرورة، أي يحمل في ذاته
وجوده، فكل ما يوجد يخضع إلى الضرورة، وهنا تظهر ثورية التصور السبينوزي، فالجوهر
الكامل لم يعد يملك الحرية المطلقة كما الشأن عند ديكارت؛ حرية الخلق، بل صار
خاضعا إلى قوانين الطبيعة التي هي قوانينه.
لا شيء يوجد خارج الله، يمكن أن يدرك بدونه، لأن
كل ما في الطبيعة ما هي إلا أحوال وجود تعبر عن الجوهر الواحد، اللامتناهي
والكامل، و تدرك به فقط، يقول سبينوزا
" ليس هناك شيء خارج الله"[15]،
كما يضيف سبينوزا " كل شيء، أقول في الله، و كل ما يحدث، يحدث عبر قوانين
الطبيعة اللامتناهية لله وحدها وتتبع ضرورة ماهيته"[16].
إن القول بأن ماهية الله أو الطبيعة هي الضرورة، حيث يسقط مبدأ الخلق الحر مرده
إلى دفاع سبينوزا عن مبدأ الحتمية. لكن الذي يجب الإلماع إليه هاهنا هو أن
المحايثة أو وحدة الوجود ليس ضربا من الصوفية كما هي عند ابن عربي أو غيره من
متصوفة الإسلام، بل قول علمي في الطبيعة، يبحث لها عن قوانين من داخلها فيسقط كل
تفسير ثيولوجي يقول بوجود علل أو أسباب مفارقة تحكم الطبيعة ينتج عنه أفكار خرافية
مثل الغائية أو العناية؛ بل إن وحدة الوجود عند سبينوزا هي إيمان بوجود قوانين
متضمنة في الطبيعة وعلل ليست تتعالى عن معلولاتها هو أكبر تجلي لدفاع سبينوزا عن
الحتمية التي يقوم عليها العلم الحديث .
حين يتحدث سبينوزا عن الله بوصفه علة حرة فإنه لا
يذهب نفس مذهب الخلق الحر عند ديكارت بل إن الله يخلق كل شيء وفق طبيعته الضرورية؛
أي ليست الحرية ترادف هاهنا المشيئة أو الإرادة المطلقة، بل الخلق وفق طبيعته
وماهيته، بحيث يستتبع هذا أن الله لا يفعل شيئا مناقضا لطبيعته، وهو ما أشرنا إليه
سابقا. إننا نتحدث عن الضرورة كمرادف للحتمية في العلم. ونقصد هنا بالضرورة أن لا
شيء يوجد مخالفا لطبيعته التي هي جزء من الطبيعة، فلما كان الله موجودا وجودا
ضروريا وليس عرضيا، ولما كانت كل الأشياء لا تدرك ولا توجد إلا عبر الله فإنه
بالضرورة كل الأشياء تتبع الطبيعة الإلهية، ولذلك" ليس هناك معطى عرضي في
الطبيعة، ولكن كل الأشياء محددة عبر ضرورة الطبيعة الإلهية، توجد وتنتج بطريقة
معينة"[17]. من الواضح أن سبينوزا
يجعل الضرورة تسري على الطبيعة وعلى كل الموجودات، لكن الضرورة هنا تعني الحرية
وهي المفارقة التي يضعنا أمامها سبينوزا بجعل الضرورة مرادفة للحرية، لكن ترتفع
هذه المفارقة حين نقرأ ما يقوله سبينوزا في معرض شرحه للشيء الحر" أسمي الشيئ الحر، الذي
يتصرف عبر ضرورة طبيعته وحدها. ومكره ذاك الذي يُحدّد في وجوده وفعله بطريقة ما من
خلال موجود آخر "[18].
لا تعني الضرورة غير الحرية أي السير والفعل وفق طبيعة الشيء ذاته التي هي جزء من
الطبيعة الإلهية انطلاقا من أن لا شيء يوجد خارج الطبيعة أو الله، بينما الإكراه هو
الفعل والوجود بمقتضى طبيعة شيء خارج ذاته، يفعل بفعله ويأتمر بأمره. إن الحرية
ليست إلا السير وفق قوانين الطبيعة الثابتة، وهذا القانون يوجد في العقل البشري،
بحيث ينظر إلى كل شيء على أنه يسير وفق ضرورة الطبيعة ولا يوجد عرضيا، ولا يقبل
بشيء جائز أو محتمل لأن الأشياء تكتسب وجها دائما يعبر عن خضوعها إلى ضرورة الطبيعة،
وإن لم تكن كذلك لما امتلك الله صفة الكمال فيستبعد كل عرضية أو غائية التي تعود
إلى اعتقاد خاطئ لدى الناس في كونهم أحرار
لأنهم يعون أفعالهم، يضيف سبينوزا
أنه حتى لو جعلنا الإرادة ماهية إلهية فإنه يخلق الأشياء على الوجه الذي هي عليه.
يقرر إذن سبينوزا أن كمال الله هو ألا يقرر شيئا آخرا غير ما يوجد في ذهنه لأنه
ليس سابقا على فعله في الخلق. إن
الجوهر واحد محايث للطبيعة بوصفه علة كل شيء، حيث لا يدرك موجود إلا عبره بوصفه
الجوهر القائم بذاته المستقل الذي لا يشرط وجوده جوهر آخر لأنه علة وجوده مثلما هو
علة كل الأشياء، القادر على الفعـل، والخاضع إلى الضرورة التي ليست غير حريته. إذن
فانطولوجيا سبينوزا لا يمكن إلا أن تكون واحدية تدافع عن وحدة للوجود يكون الله
فيها، باعتباره عله الوجود، محايثا لمعلولاته وليس مفارقا لها لذلك فهي تهدم كل انطولوجيا تعددية تتحدث عن علة متعالية
عن الوجود، وهذا هو الهدف الأول الذي
انصرف الجزء الأول من الإتيقا الدفاع عنه، أي عن " وحدانية الجوهر"[19]
و " تماهيه مع الطبيعة". وبمقتضى هذه المحايثة لم يعد الــجوهر مفارقا
لصفاته و أحواله التي ليست غير تعــبير عــن هذا الجوهر. إذن لــن نقول غــير أن
" الله ليس شيئا آخر غــير الطبيعة"[20]
وهذا ما نلفيه في " رسالة في اللاهوت والسياسية"[21]
حيث يجعل سبينوزا أوامر الله هي ذاتها قوانين الطبيعة، والحال أنه نقد لكل
الخرافات التي تولد الخوف لدى الناس من أجل السيطرة عليهم حــين يُشخــص الله، ولسلــطة
القســاوسة التــي تتوقــف عــلى إشاعــة الخرافــة بين العامة.
2). الصفات كتعبير عن الجوهر
يتجسد الجوهر الواحد ويُدرك من خلال صفاته التي هي
تعبير عن هذا الجوهر أو الطبيعة، لكنها ليست منفصلة عن الجوهر، توجد مستقلة بذاتها
بل هي عينها الجوهر[22]،
بل هي في الجوهر، لأن سبينوزا يقرر أن الله ما دام هوا لجوهر الواحد فلاشيء يوجد
خارج الجوهر وإنما كل ما يوجد في الطبيعة ما هو إلا صفات وأحوال الله. ويعرف
الصفة، بعد أن عرف الله على أنه كائن متكون من صفات لا متناهية كل واحدة تعبر عن
ماهيته الخالدة، على أنها " يدركه الفهم في الجوهر كمكون لماهيته" [23].
فال صفة ليست غير تعبير عن ماهية الجوهر الإلهي، أي ما ينتمي إليه، ولأنها لا
تنفصل عن ماهية الله الخالدة و الأزلية فإن هذا أيضا يُحمل على صفاته الخالدة و
الأزلية ، لأن كل ما يترتب عن ماهيته فو خالد ، وتوجد بالضرورة. لكن وجب الابتدار
إلى القول إن إقرار سبينوزا بلاتناهي صفات
الله في العدد لا يفيد أن الجوهر قابل للقسمة بحيث إن كل صفة تعبر عن جزء من
الجوهر، لأن انقسام الجوهر يفقده هذه الصفة ويحوله إلى مجرد كائن، وهو ما لا
يستقيم عند سبينوزا، فيخلص إلى أن "
الجوهر المتناهي بشكل مطلق غير قابل للقسمة"[24]،
لأن انقسام الجوهر يفضي حتما إلى تعدد الجواهر و هذا لا يتفق مع فكرة وجود جوهر
واحد في الطبيعة، وبما أن ليس هناك جوهر خارج الله يمكن أن يوجد أو يدرك بدونه،
فإن الله هو الجوهر الوحيد، كل شيء مجرد تعبيرعن ماهيته. إذا كان سبينوزا يجترح القول بلاتناهي
الصفات لأن ماهية الله لا متناهية فإن هذا يفضي إلى استحالة إدراكها من طرف
الإنسان، فيقرر إن العقل البشري لا يُدرك غير صفتي الامتداد والفكر؛ لكن الذي
يُمتنع تجاهله هنا هو أن سبينوزا لا يسقط في أي مُفاضلة بين صفة و أخرى، أو بين
الفكر و الامتداد أو المادة والفكر. و هنا نلحظ لا ديكارتية سبينوزا الذي ينفي أن
يكون الامتداد و الفكر جوهران كما تقرر الديكارتية، التي تجعل الفكر جوهر تختلف
طبيعته عن الامتداد كجوهر مادي " أنبه، هنا، أنه هناك اختلاف كبير بين الفكر
والجسم، بالنسبة للجسم، بطبيعته، قابل للانقسام، والفكر هو غير قابل للقسمة"[25]،
و بفصله الجسد عن الفكر يعطي القيمة للفكر على الجسد، وهو بذلك يخرق منطق المحايثة
و التوازي الذي لا ينفصل فيه الجسد عن النفس، حين نتصور الإنسان، فكلاهما شيء واحد
باعتبارهما صفتان للجوهر الواحد " النفس و الجسم هما الشيء الواحد نفسه
المدرك تارة تحت صفة الفكر، وتارة تحت صفة الامتداد"[26].
فحال الامتداد هو الجسد أما حال الفكر فهو النفس. لكن يعود سبينوزا لكي يميز بين
النفس والجسم منتقدا ديكارت، حيث لا يعتبر الجسد مجرد آلة تحركها النفس أو تحت
إمرَّة الفكر مما يولد وهم الإرادة الحرة، فالجسم لا يخضع إلا لجسم آخر وفق منطق
الفعل والانفعال، لأنه يسير وفق قوانين الطبيعة وليس بأمر النفس أو الفكر.
تعني صفة الفكر و الامتداد أن الله، بوصـفه الجوهـر
الواحد في الطـبيعة، يدرك تارة عـلى أنه جوهـر مفكر[27]
و تارة على أنه جوهر ممتد[28]،
مؤكدا على أنها ليست جواهر بذاتها و لكنها هي الجوهر نفسه منظور إليه كممتد أو مفكر. لكن اعتبار الله جوهر ممتد
يؤدي بنا إلى تجسيم الله وإسقاط الصفة المادية عليه؛ مع الإشارة إلى أن سبينوزا قد
وجه نقده إلى أولئك الذين يسقطون صفات إنسانية على الله. ليس هذا بالأمر المتناقض،
لأن المشكل في فهم " الامتداد" ، فهو لا يفهمه مثلما فهمه ديكارت أو
مثلما يفهمه الجميع[29]،
أي الممتد على أنه كيان له طول وعرض وعمق وشكل وهو ما لا يتصوره الناس محمولا على
الله، لأنهم يعتبرونه كائنا منزها عن كل صفة مادية، لكنه يثبت منطقيا أن الامتداد
صفة إلهية، لأن الامتداد موجود، ومادام الله هو الجوهر الواحد وكل ما يوجد إما
أحوال أو صفات له، فإن الامتداد أحد صفات الله اللامتناهية ، لأننا نتصور الإمتداد
كمّا وهو محال، حيث يؤدي إلى قابلية الجوهر إلى الانقسام وهذا يتنافى مع ماهية
الجوهر بوصفه غير قابل للقسمة، أما إذا تصورنا الامتداد من خلال الذهن فإننا نستطيع
إدراك الله بوصفه ممتدا. إننا نستطيع أن نفهم الجوهر الممتد إذا ابتعـدنا عـما
فهمه ديكـارت مـن الامـتداد، باعـتباره صفة محمـولة عـلى الأشياء الجـزئية. أما الفكر فإنه موجود في الطبيعة إذا تأملنا
الإنسان، بوصفه ذاتا مفكرة، مما يعني أنه ينتج أفكار، كأحوال تعبر عن صفة الفكر
الذي بدوره يعبر عن الجوهر المفكر،. يقول سبينوزا في هذا السياق " الأفكار
الجزئية، بمعنى هذه الفكرة أو تلك، هي أحوال تعبر عن طبيعة الله بطريقة معينة
ومحددة"[30].
نستخلص من هذا أن هناك جوهرا واحدا هو الله أو
الطبيعة، كل ما يوجد يكون هو علته، بحيث لا يمكن تصور شيء أو إدراكه خارج هذا
الجوهر أو ما يُطلق عليه سبينوزا بالعلة المحايثة لمعلولاتها، وله صفات لا متناهية
في جنسها، من بينها الخلود والوجود والأزلية والفكر والامتداد، كما يتوقف سبينوزا
عند صفة القدرة، التي تعبر عن ماهية الجوهر، فقدرته التي يوجد ويفعل بها هي ذاتها
ماهيته، لكن كل ما يقدر الله على فعله يكون بالضرورة انطلاقا من أن لا شيء يوجد
عرضا، ويعني هذا أن القول بقدرة الله المطلقة أمر يتنافى مع طبيعة الله. ويلزم عن
هذا أن كل ما يوجد يملك قدرة تدفعه إلى الفعل، لأن كل شيء يعبر عن قدرة الله الذي
هو علة كل الموجودات. إذن لا تفيد قدرة الله في انطولوجيا سبينوزا غير قوانينه
الضرورية.
لكن هذه الصفات تحتاج أيضا إلى من يعبر عنها أو
يجسدها، من خلالها نستطيع أن ندركها ونتصورها في الوجود، وهي الأحوال.
3). الأحوال
ينطلق سبينوزا من فكرة وجود جوهر واحد في الطبيعة،
ويستنج أن كل ما يوجد إما صفاته أو أحواله. وقد بينا أن الصفات لامتناهية لأنها
تعبير عن الجوهر الواحد اللامتناهي والخالد، لكنها ليست مستقلة عنه، لا تدرك إلا
من خلاله وهي بدورها تحتاج لكي تدرَك من طرف العقل البشري إلى من يعبر عنها و هي
أحوال الوجود. يعرف سبينوزا الحال على أنه
" انفعالات الجوهر، بمعنى آخر ما يوجد في شيء آخر، يدرك عبره"[31]
الشيء الذي يعني أن الحال ليس مستقل بذاته إنه مرتبط بشيء آخر من خلاله بمكننا إن
ندركه ونتصوره . يمكن أن
نقول إن الحال هو ما به نستطيع أن ندرك ماهية شيء لأنه هو الذي ينقل هذه الماهية
من الإمكان إلى التحقق، إنه " واقع"، بوصف هذه الماهية هي موجودة في
الذهن الإلهي، وباعتبار الحال تعبير عن صفات الجوهر الإلهي. وهنا نلحظ جدّة التصور
السبينوزي الذي يبتعد عن كل تجريد أو الحديث عن ماهيات كلية وإنما هناك أشياء
جزئية وبالتالي ماهيات جزئية[32]
تختلف حسب درجة قوتها أو حسب قوتها في حفظ الوجود الذي يسميه سبينوزا ب "
الكوناتوس"، ليعيد ترتيب سلم الوجود من خلال قوة كل جسم الذي يمكن أن يكون
فاعلا أو منفعلا حسب درجة هذه القوة التي هي ماهيته الحقيقة.
للجوهر إذن مجموعة من الأحوال هي مكونات الوجود أو
الأشياء الفردية التي نشاهدها في الطبيعة، لأن مبدأ المحايثة الذي تقوم عليه
الانطولوجيا السبينوزية يجعل الجوهر متضمن في الأشياء وموجود فيها ليس مفارقا لها
أو متعاليا عنها، مما يعني أن كل ما يوجد لن يكون غير أحوال لهذا الجوهر. و أهم ما
يميز الحال هو أنه ليس بالمستقل بذاته فهو يرتبط بشيء آخر يُدرك من خلاله أو عبره
بالضرورة، لأن ليس هناك غير الجوهر الذي يمكن أن ندركه كعلة ذاته لا يحتاج شيئا
آخرا لكي نتصوره أو يوجده في حين أن كل ما خالف الجوهر ليس يُدرك إلا من خلال هذا
الجوهر الذي هو علة كل الأشياء. فهذه الأحوال أو الأشياء الفردية تعتمد على بعضها
البعض، وتكون فاعلة حسب قوتها الداخلية أو تكون منفعلة إذا كانت هناك قوة أكبر
منها، لأنه كلما اعتمد الجسم في وجوده على جسم آخر قلَّ كماله.
إننا أمام
نسق متكامل ومغلق بحيث ينطلق من مبدأ يستنتج منه كل شيء، أي تنطلق إتيقا سبينوزا
بوصفها انطولوجيا من فكرة وحدة الوجود أو الواحدية التي تقول بوجود جوهر واحد هو
الله أو الطبيعة هادمة كل فلسفة تقوم على المفارقة أو التعالي، و بما أن الجوهر
الوحيد الذي يوجد هو الله فإن ليس هناك غيره مما يعني أن ما يوجد لن يكون غير
صفاته اللامتناهية التي تعبر كل واحد عن ماهية هذا الجوهر، لأن الذي يُستنتج من
اللامتناهي لن يكون مخالفا له، أو أحواله ـ أشياء فردية هي الموجودات ـ التي هي
انفعالات الجوهر[33]، ويرتبها سبينوزا على أساس
قوتها التي هي ماهيتها وليس وفق تراتبية قيمية أخلاقية. إنه منهج صارم يبدأ بتعريف
الجوهر ويُعمل الاستدلال اعتمادا على هذه الحقيقة الواحدة، التي هي فكرة صادقة
بذاتها[34]
ليستنتج منها بالضرورة كل الحقائق الأخرى، باعتبار أن الطبيعة الإلهية هي الأولى
حسب المعرفة وحسب الطبيعة [35]. لقد وجد سبينوزا في التصور الديكارتي لله
أو الجوهر حضورا طاغيا للفكر الديني التقليدي الذي يتصور الله على أنه علة مفارقة،
خلق الطبيعة من العدم بفعله ( الخلق) الحر وهو ما يتنافى مطلقا مع نظام الأشياء
التي اقترحه سبينوزا، الذي لا يبحث عن علة للأشياء خارجها بل محايثة لمعلولاتها،
فيتجنب سلسلة العلل اللامتناهية وينطلق مباشرة من هذه العلة ليستخلص منها كل
الموجودات. إذن يعتنق سبينوزا رأيا مختلفا عن الله وعن الطبيعة، يجعله علة محايثة
وليست متعدية أو مفارقة، لا ينفصل عن الطبيعة إطلاقا.
الفصل الثاني: الإتيقا بوصفها انتربولوجيا
إذا كان الجزء الأول من " الإتيقا " قد
انصرف إلى إعادة بناء تصور جديد لله أو الجوهر أو الوجود متخلصا من كل حضور
ثيولوجي يضع الله فوق العالم، ويحوله إلى كان خارج الطبيعة يملك إرادة مطلقة تدفعه
إلى الخلق متى شاء، ومؤسسا لوحدة وجود يكون فيها الله هو الطبيعة ذاتها، ومحايثا لمعلولاته
بمقتضى نظام رياضي تُستنتج فيه الأشياء كلها من فكرة الله، بوصفها الفكرة الحقيقية
الأولى، فإن الأجزاء الأخرى تنصرف إلى إنجاز مهمة تتلخص في إعادة بناء تصور جديد
للإنسان و الطبيعة البشرية دون السقوط في الموروث الديني الذي لم تنجح الديكارتية
في القطع معه بشكل مطلق، لذلك ليس من باب التزيد في الكلام القول إن سبينوزا يشكل
بذاته لحظة قطيعة كبرى، كما يجب الإقرار أن سبينوزا لم يكن ديكارتيا عكس ما تذهب
إلى ذلك العديد من الكتب التأريخية التي تصنف سبينوزا ضمن التيار العقلاني لديكارت
فتجحف هذه اللحظة الفريدة. إن الاحتفاظ بالترجمة الحرفية لعنوان الكتاب دون
نقله إلى مرادف آخر سيكون هو الأخلاق ليس مجرد عملية ترجمة بسيطة، بل إن العنوان
في حد ذاته هو مفهوم يشكل ثورة على المفهوم التقليدي للأخلاق. و يعني هذا الكلام
أن إتيقا سبينوزا ليست مجرد أخلاق عادية و تقليدية، بل هي أخلاق جديدة، تفكر في
الطبيعة الإنسانية في ما وراء قيمة الخير والشر، وما وراء أخلاق الخطيئة، بل تحاول
أن تدرسها باعتبارها جزءا من الطبيعة بصفة عامة، تخضع لقوانين ثابتة يمكن للعقل
البشري أن يكشفها، وهو ما يشير إليه سبينوزا في معرض تقديمه للجزء الثالث من مؤلفه
الإتيقا، بقوله " يبدو أن جُل الذين
كتبوا عن الانفعالات و سلوك الحياة الإنسانية، عالجوا ليس أشياء طبيعية تسير وفق
قوانين المشتركة للطبيعة ولكن أشياء خارج الطبيعة"[36].
ومرده هذا إلى تصور خاطئ ترسخ مع ديكارت و هو أن الإنسان سيد على الطبيعة يتعالى عنها و يملك الحرية في
فعله لامتلاكه الوعي و الإرادة، أو ينظرون إلى الطبيعة البشرية على أنها خطأ
ويحتقرون الجسد ويعلون من شأن الفكر أو العقل أو الروح، أو يحولون العواطف والانفعالات
إلى تابع للعقل يأتمر بسلطته كما يقر بذلك ديكارت، لذلك صار لزاما أن يتم معرفة
قوانين الجسم حتى لا نسقط في هذه الأفكار والتي تولد وهم الحرية النابع من الجهل
بالعلل الحقيقية.
لقد أشرنا في
سياق الحديث عن الأحوال أن سبينوزا يعتبرها هي الأشياء الفردية ويقيمها ليس من
منطق أخلاقي، ولكن من منطق فيزيائي حيث يضع سلم للأشياء من خلال قدرتها على الفعل،
أي قوتها الداخلية، بحيث إن الماهية الحقيقية لأي جسم هي قوته أو قدرته على الفعل.
يسقط إذن سبينوزا كل تقسيم أخلاقي للموجودات يضع الإنسان سيد عليها، ويعيد بناء
تصور جديد للموجودات بما هي علاقات فعل وانفعال، فيضع معيارا كميا هو الذي تميز به
الموجودات. و يفضي هذا إلى أن أخلاق سبينوزا ليست هي ذاتها الأخلاق التقليدية و
إنما هي إتيقا جاءت لكي تهدم كل تصور أخلاقي للعالم، إتيقا عبارة عن " ما
وراء الخير و الشر"، لأن منطق الأخلاق يضع مجموعة من المعايير والقيم المبادئ
السابقة على الوجود لكي تحاكمه بها، قد تكون معايير مأخوذة من مصدر ما وارائي أو
من مصدر آخر، فيتحول الواقع إلى مجرد نسخة من هذه القيم والمعايير، فتسقط بذلك في
التعالي والمفارقة تبحث عن قيم خارج الأشياء وهو ما يتنافى مع منطق المحايثة الذي
يقرأ به سبينوزا الوجود. فمثلا تنظر الأخلاق إلى الإنسان على أنه كائن عاقل؛ لكن
هذه الماهية ليست محققة على أرض الواقع تحتاج إلى قيم تخرجها من الإمكان إلى
التحقق. فماهية الإنسان هي مجرد إمكان لأن سلوك الإنسان ليس دائما عقلانيا أي
يتعارض مع ماهيته، ووظيفة هذه القيم ( المثل) هي جعل الإنسان يتطابق مع ماهيته
الحقيقية. إن ماهية الإنسان هي العقل، الشيء الذي يجعل الإنسان في مرتبة أسمى من
كل الموجودات الأخرى، كما يتعالى الله عن الموجودات، ويتسامى العقل عن الجسد. ليس
هذه هو حال أخلاق سبينوزا بوصفها إتيقا، إنها تفكر في الموجودات من جهة كونها قوة
كلما ازدادت كان الجسم قادرا على الفعل، بينما يوجد منفعلا تحت قوة جسم آخر إذا
نقصت قوته تلك. إنه انتقال من التساؤل عن ماهية الأشياء إلى التساؤل عما تستطيعه
هذه الأشياء. ومتى تحدث سبينوزا عن الماهية فإنه لا يتحدث عن ماهية الإنسان بل
يتحدث عن ماهية أشياء جزئية[37]،
أو يكون الحديث عن الماهية هو حديث عن الوجود.
لا تبحث الإتيقا عن إصدار أحكام أخلاقية أو عن شيء سامي
في الموجود، لأنها ليست نسق من الأحكام تحاول أن تشرح لماذا يكون هذا أفضل من
الآخر، إنها تتوقف عن ربط فعل ما بقيمة أخلاقية متعالية؛ بل تتساءل عن كيف حصل هذا
الشيء من خلال قوة محايثة للشيء، أي عما يمكن أن يستطيعه هذا الموجود. تنقل الإتيقا
فعل التمييز من أخلاقي إلى فيزيائي، يميز بين الأشياء من خلال قوة الشيء المحايثة
التي تدفعه إلى الفعل. لكنه ليس مجرد تمييز داخل مجال الفعل الإنساني؛ بل يشمل كل
شيء قادر على الفعل، أكان نوعا أو حيوانا أو شيئا، لذلك فهي ليست بالأخلاق في شيء،
لأن الأخلاق لا تُعرّف الشيء إلا من خلال ما يكون و ما يملك من حق وليس من خلال ما
يستطيع. إن إتيقا سبينوزا لا تعرف الإنسان تعريف أرسطيا على أنه " حيوان
عاقل"، تحتاج ماهيته لكي تتحقق إلى نسق من القيم والأحكام التي تنقل ماهيته
من الإمكان إلى التحقق لأن سلوكه ليس بالعقلاني ، وإنما تعرف الإنسان من جهة ما
تستطيعه النفس والجسد. فماذا يستطيع الجسد والنفس؟ ماذا تصير القيم في
إتيقا سبينوزا؟
يبتعد سبينوزا
عن كل حكم أخلاقي يميز بين الموجودات من خلال ثنائية الشر والخير، الحسن والقبيح،
لينظر إلى الأشياء من جهة ما تستطيعه هذه الموجودات، لكن ليس يعني هذا أن سبينوزا
لا يتحدث عن هذه القيم، غير أن حديثه هو ماوراء الخير والشر بحيث يستعملها من جهة
علاقتها بقوة الجسم المحايثة له، أي من جهة ما يزيد أو يُضعف من قوة هذا الجسد، ما
يجعل الموجود فاعلا و ما يحوله إلى منفعل، الشيء الذي يفيد أنه ليس هناك شيء في
ذاته؛ أي ليس هناك شيء قبلي بل هو بعدي مرتبط برغبتنا[38].
ولعل الوقوف عند جملة التعريفات التي يقدمها للقيم: الخير والشر، الحسن والقبيح،
الكمال والنقصان، تقيم الدليل على ذلك، يقول سبينوزا " نطلق على الحسن أو
القبيح ما هو نافع أو ضارا على حماية وجودنا، أي ما يزيد أو يضعف، يساعد أو يعيق
قدرتنا على الفعل"[39]،
لأن منطلق سبينوزا هو المحايث للموجود أي رغبته في الحفاظ على الوجود "
الكوناتوس"[40] التي هي الماهية
الحقيقية للشيء و كذلك الإنسان بوصفه جزءا من الطبيعة يميل إلى ما هو نافع يزيد من
كماله ويتجنب ما يمكن أن يضعف من قوته و يعوق تحقيق رغبته في الوجود[41]،
وهو نفس ما يقوم به العقل أي مساعدة الجسد على أن يكون فاعلا، وعلى هذا الأساس
يعيد سبينوزا تعريف الفضيلة على أنها السير وفق قوانين طبيعة الإنسان الذاتية التي
هي قوانين الطبيعة والبحث عما ينمي من قدرته على الفعل ويكون نافعا له، فترادف
بذلك الفضيلة المنفعة عكس الذين يجعلون المنفعة تتعارض مع الفضيلة؛ بل إن
أسمى فضيلة هي البحث عن النافع. إن الإنسان يشتهي ويرغب في الحسن أو الخير أو
الجميل وينفر من الشر والقبيح وفق قوانين الطبيعة.
يرادف الخضوع لقوانين الطبيعة عند سبينوزا السير
وفق العقل الذي يبحث عن النافع لحفظ الوجود ( الفضيلة) المترتب ضرورة عن ماهية
الإنسان، فنبحث عبر الفهم ما يوافق طبيعتنا و نتلافى ما يتعارض معها، لأن من خلاله
نعرف ما هو نافع و ما هو ضار لنا. وهنا يجعل سبينوزا السير وفق العقل هو الذي يحقق
للإنسان سعادته المتمثلة في تحصيل كل ما يحفظ وجوده، وفي تحقيق رغباته.
يرسم إذن سبينوزا معالم أخلاق للسعادة والفرح،
تعتبر أن الفضيلة الأولى هي السعي نحو الحفاظ على الوجود بوصفه ماهية الإنسان وكل
الموجودات، وهذا السعي نحو الحفاظ على الوجود هو الرغبة باعتبارها ماهية الإنسان.
ولعل هذا أجّل ثورة يقوم بها سبينوزا على الفلسفة الديكارتية التي اختزلت الإنسان
في العقل أو الفكر و جعلت الجسد مجرد آلة، يرمز إلى الفوضى والضبابية، في حين أن
السبينوزية تعرف الإنسان من جهة الجسد كونه كائنا راغبا. ويحدد سبينوزا الرغبة على
أنها شهوة مصحوبة بالوعي تسعى إلى التحقق للحفاظ على وجودها[42].
لكن بالعودة إلى الفضيلة السامية المتمثلة في
البحث عما هو نافع للحفاظ على الوجود، فإن سبينوزا ينتقل هنا نحو البحث عن المكان
الذي تتحقق في هذه الفضيلة وهو المجتمع أو الدولة التي تسعى إلى تحقيق "
الحياة السعيدة " كغاية يضعها سبينوزا لمشروعه الإتيقي. وتتجلى الغاية
السعيدة أولا في أن يكون الفرد حرا، أي في السير وفق قوانين طبيعته دون الخضوع
لشيء خارج طبيعة الإنسان. ولعل ما يمكن أن يُفقد الإنسان حريته هو انسياقه وراء
رغبات تتجاوز حدود ما يستطيع، لأن هذا يؤدي في الأخير إلى الشعور بالحزن. ونعني
بهذا الكلام أن الشخص متى لم يسر وفق قوانين طبيعته صار عبدا لرغبات، أي إن الجسم
عليه أن يرغب فيما يستطيعه حتى لا يعجز عن تحقيق رغبة فوق قدرته وهو ما يولد لديه
الحزن و الألم. ولكي يتحقق له ذلك عليه أن يُخضع انفعالاته إلى العقل ويتحكم فيها.
كما أن السير وفق العقل الذي هو الفضيلة عند سبينوزا يجعل الفرد يسيطر على
انفعالاته السلبية كالحقد والكراهية التي تمنعه من تحقيق أكبر نفع وهو العيش مع
الآخرين داخل المجتمع، وهنا تظهر وظيفة الدولة في تحقيق هذا الاجتماع كوسيلة
لتحقيق الفضيلة والحياة السعيدة، وهو ما ينقلنا إلى الحديث عن السياسة كتحقيق
للغاية التي رسمها سبيننوزا لمشروعه الإتيقي، لذلك ليس من باب الترف في الكلام القول
إن سبينوزا وضع أسس الدولة المدنية
انطلاقا من الإتيقا.
الفصل الثاني: السياسة كنتيجة للإتيقا
من باب الخطأ أن نقرأ السياسة[43]
مستقلة بذاتها كمشروع لا يرتبط بنسق الإتيقا، أو النظر إليها كموضوع يشتغل بعيدا
عما رسمه سبينوزا في أخلاقه، لذلك سيكون من الضروري أن نقرأ مؤلفه في السياسة داخل
مجموع مذهبه ، لأن " سياسة سبينوزا هي ببساطة قطعة من نسق الإتيقا الضخم الذي
يقود إلى الحياة الفلسفية، أو لنقل، إلى الحكمة"[44]،
فيصير من الضروري علينا قراءة الرسالة السياسية في علاقتها مع الإتيقا؛ قراءة
جدلية، السياسة بالإتيقا، والإتيقا بنور السياسة لكي نستطيع تكوين صورة نسقية
متكاملة عن هذا المشروع الفلسفي الفارق في تاريخ الفلسفة، لأن كل عملية قراءة تتجه
نحو السياسة ملغية الإتيقا تسقط في السطحية لأنها لن تكتشف الهدف الذي انصرف
سبينوزا إلى إنجازه من خلال رسالته في السياسة.
لقد أسس سبينوزا إتيقا لإنسان يسير وفق العقل،
بوصف الحكمة هي الفعل بأوامر العقل الذي يقوده نحو الفضيلة التي هي الحفاظ على
الوجود والبحث عما يُحقق له هذه الغاية بوصفها ماهيته الحقيقية؛ إنسان يُخضع
انفعالاته السلبية، كالحقد والكراهية والحسد، للعقل حتى يستطيع العيش مع الآخرين،
بوصف أن أسمى فضيلة هي الوجود مع الآخرين. وبتجاوزها لثنائية الخير والشر فإنها
تبحث عن تأسيس لقيم الفرح ـ نجده يختم الجزء الأول من الإتيقا بنقد كل الخطابات
الدينية التشاؤمية التي تسيطر من خلال ترويج فكرة ضعف وخطأ الطبيهة البشرية ـ
والحب والتسامح، بوصفها أخلاق تؤكد وتدافع عن القيم الإيجابية التي تزيد من كمال
الإنسان والابتعاد عن كل ما يمكن أن يسبب للجسد والنفس الحزن والألم. كما سعت
اتيقا سبينوزا إلى الدفاع عن الحرية[45] وهو ما يعني أن الإنسان العاقل الفاضل الحر لن
يتحقق إلا داخل الدولة، وداخل نظام الديمقراطية الذي يضمن للفرد حريته وفضيلته، أي
يضمن تحقيق الإتيقا. لكن هل يمكن أن نفصل فكرة الدولة عن فكرة الجوهر؟ ما هو أصل
السيادة السياسية؟ أليست فكرة الدولة ـ السيادة نتيجة لفكرة الجوهرالموجود بذاته
المستقل عن كل موجود آخر؟ أليس تحرير الطبيعة من الخضوع لغير قوانينها الضرورية ،
وإسقاط كل غائية عنها، هو تحرير للسياسة و الدولة من الخضوع لأي قوى خارجية عنها
تكون غير قوانينهاـ السيادة ؟ لذلك ليس مجرد زلل في العبارة القول إن تكوين وحدة
للوجود وتجاوز كل تعالي أو تسامي ومفارقة استهدف بناء نظرية حول كيان سياسي لا
يرتهن إلا لقوانينه الداخلية وليس التبعية لقوى خارجية، أوجسم سياسي (الدولة) يستمد مشروعيته من مصادر ماورائية؛ بل يجدها
داخل بنيته الخاصة، ف" تكون الدولة ذات سيادة لأنها لا تنصاع إلا لنفسها. و
هي حرة لأنها لا تخضع إلا لقانونها الخاص، فليس هناك إلزام أخلاقي داخل المجال السياسي"[46]،
و يعني هذا أن الدولة هي ماوراء الخير والشر، فهي ليست بفاضلة أو تقية، بل هي دولة
مدنية قامت على أساس حماية الحق الطبيعي ( الحرية).
إن استقلالية الطبيعة ليست إلا مرادفا لاستقلالية
الدولة، أو المجتمع الذي لا يتوقف إلا على بنيته الخاصة، هو علة وجوده لا يسير إلا
وفق قوانينه المحايثة له. إن الوحدوية أو الواحدية[47]
ليست مفهوما خاصا بالإتيقا وحدها بل يتعلق
أيضا بالسياسة حين نتحدث عن المجتمع أو الدولة المؤسسة على السيادة السياسية
" لهذا السبب سيادة الجسم الإجتماعي هي إنسانية ومحايثة بشكل محض، وقانونية
وجمعية، وهي في الواقع تأكيد للسيادة الكلية للطبيعة. فالسيادة السياسية، خالية من
كل نظام أخلاقي أو ديني"[48]
تزداد العلاقة بين الإتيقا والسياسة وضوحا عندما
نلفي أن فكرة الحق الطبيعي، باعتبارها فرضية وُظفت لفهم ظاهرة الاجتماع السياسي
وقيام الدولة، قد استنتجت مباشرة من فكرة ماهية الإنسان المتمثلة في ذلك الجهد (
الكوناتوس) الذي يقوم به الفرد للحفاظ على وجوده، بوصفها الرغبة الأولى التي تتحقق
داخل المجتمع عبر التعاقد، بمعنى هناك تلاقي نجده بين الرغبة وبين فكرة الحق
الطبيعي، الذي يعني تلك القدرة على الوجود وعلى الاستمرار والتملك و هي ذات القدرة
التي للطبيعة، من خلاله ينتقل الأفراد إلى الحق الوضعي؛ وهو انتقال من القدرة على
الوجود كرغبة (الطبيعة) إلى القدرة على الوجود كحق (الدولة)، حيث يطرأ تغيير على
الرغبة بانتقالها من فردية إلى جماعية متبادلة وشرعية. فالحق الحقيقي لن يتحقق إلا
عبر الاجتماع الذي ينجزه العقل بتخليص الفرد من كل انفعالاته السلبية كالعنف
والحقد و الكراهية والحسد التي تمنعه من تحقيق أنفع الأشياء وهي الاجتماع مع
الآخرين، لأ، سبينوزا لا يبحث عن ما يُسعد الفرد وحده ولكن سعادته المرتبطة بسعادة
الآخرين عبر التعاقد الذي يؤسس جسما سياسيا، و النظام الأمثل لتحقيق ذلك هو النظام
الديمقراطي، بوصفه نظاما عقلانيا يحمي حرية المواطنين، لأن استمرار الدولة يرتبط
بالخضوع لمنطق العقل حيث تكون كل القوانين خادمة للحرية. إذن تكون الديمقراطية هي
النتيجة الطبيعة لمذهب الاتيقا الذي يهدف الحرية كاستقلال ذاتي، والفرح كقيمة
ايجابية، على اعتبار أن الحرية هي التخلص من كل العوائق التي تمنع الفرد من تحقيق
السعادة التي ترتبط بالغير ، فينتقل الفرد من حريته إلى حرية الآخر وتصير بذلك
الحرية هي الصداقة، وهي ما نجده حاضرا في رسالة في اللاهوت والسياسة، عندما يعتبر
أن الإيمان هو طاعة الله والإحسان إلى الآخرين، فليس الدين بنظريات فلسفية أو
علمية بل يعلمنا فقط كيف نحب الله ونحسن إلى الآخرين[49].
تعني إذن الحرية هنا السير وفق الطبيعة الخاصة
للفرد، و إخضاع الغريزة للعقل، كما تعني حرية الآخرين داخل مجتمع مؤسس عبر تعاقد
الأغلبية، وهي مرادف للاستقلال الذاتي للجسم السياسي ( السيادة)، مثلما هي مرادف
لحرية المواطنين أو الكتلة، لذلك نقول " ليست السياسة، كتعبير عن نظم الحياة
الاجتماعية، فقط لازمة لكل ما شُكّل داخل نسق الإتيقا الفلسفي، إنها أيضا واحدة من
الوسائل العملية لتحققه العملي"[50].
إن أس الدولة والمجتمع يوجد في طبيعة الإنسان
ورغبته الحقيقية المتمثلة في الحفاظ على الوجود وتطوير قواه والزيادة في اكتماله،
كما يوجد في طبيعتة عقلانية حيث يبحث عن الفضيلة؛ لكنها فضيلة مرتبطة بالآخرين، أي
يبحث عن المصلحة العامة . والحال إن الأفراد لن يتخلوا عن طبيعتهم أو رغبتهم في
الحرية أو ينكرها، لذلك فإن أفضل الدول هي التي تقوم على الطبيعة.
نستطيع أن نقول إن هدف سبينوزا من الإتيقا أو
السياسة هو تحييد الهيمنة المظلمة للشهوة والاحتفاظ بها في حدود معقولة، و سيادة
احترام الآخر، وتأسيس نظام ديمقراطي يعيش الأفراد حياة منسجمة وسعيدة. تأسيسا على ما سبق يمكن القول إن أي محاولة لقراءة السياسة بعيدا
عن نسق الإتيقا تنتج لزاما قراءة مبتورة لا تقف عند الهدف الذي تغياه سبينوزا من
إتيقاه أو الذي ابتغاه من السياسة؛ بل هي قراءة بسيطة سطحية تنظر إلى الإتيقا و
السياسة على أنهما مستقلان بذاتهما لا يرتبطان بأي علاقة، والأصح هو القيام بقراءة
جدلية تبحث عن الإتيقا في السياسة، والسياسة في الإتيقا لكي نصل في الأخير إلى
الهدف من الإتيقا وهو رسم معالم " الحياة الحقة " أو الحياة
السعيدة"، حياة العقل والحرية والفرح التي تقودنا إلى سياسة ديمقراطية؛ أي
الإتيقا تتحقق داخل الدولة التي تهدف حرية الأفراد والوجود الآمن، عبر احترام الآخر
والتوافق وعقلانية الدولة والمساواة بين المواطنين.
[1]1. لم تستطع الأرسطية أن تتصور الحركة إلا داخل
الامتلاء انطلاقا من القانون الأرسطي " الطبيعة تخشى الفراغ" في حين
أساس الحركة في الفيزياء الحديثة مع غاليلي وديكارت هو الفراغ كشرط رئيس للحركة،
هذا اللامفكر فيه هو الذي استدمجته فيزياء غاليلي وديكارت وصار مفكرا فيه.
2. نجد هذا التحليل في التقديم الذي قام به فريديريك دو بيزون
لكتاب ديكارت" مقال في المنهج"، حيث يعرض ما قاله لويس ليارد في كتابه
" ديكارت" الذي يعتبر أن جزءا كبيرا من التقليد الفرنسي في تاريخ العلوم
ينظر إلى الجزء الميتافيزيقي من مقال في المنهج على أنه " ضمانة خارجية للعلم
الذي لم يتأسس من لا شيء، لا منطقيا و لا كرونولوجيا" . انظر
René Descartes, Discours de la méthode,
suivi de la Dioptrique, édition établie et présentée par Frédéric de Buzon,
Gallimard 1991.p 29
[3] Martial Guéroult, Descartes selon l’ordre
des raisons, 1 l’âme et dieu. Édition aubier- Montaigne. Paris 1975
[4] Descartes, méditations
métaphysiques, présentation et traduction de Michelle Beyssade, le livre de
poche, classiques de la philosophie, Paris, édition 15, 2010, p 85
Ibid , p 117
[8] Spinoza, Ethique 1, présentation, traduction et notes par
Charles Appunh, GF Flammarion, paris 2009, définition 3, p 21.
[10] Spinoza, court
traité, œuvres 1, présentation, traduction et notes
par Charles Appunh, GF Flammarion, paris
2009, p 51
[11] Spinoza, éthique 1, proposition
7 « il appartient à la nature d’une substance d’exister », p 25
17. أثر العلم الحديث مع غاليلي في
فلاسفة العصر الحديث، من خلال وضعه لتصور جديد للعالم على أسس ميكانيكية تقطع مع
التصورات الأخلاقية المتضمنة في الميتافيزيقا الأفلاطونية أو الفيزيقا الأرسطية
والتي ظلت حاضرة في التصورات اللاهوتية للقرون الوسطى، حيث أصبحت قوانين العالم
تظهر في صيغ رياضية تعبر عن الحتمية، وهو ما نلحظه مع ديكارت التي كانت فلسفته
جزءا من هذه القطيعة، و نجده أيضا في فلسفة سبينوزا التي بتأسيسها للوجود على أساس
المحايثة تدافع عن مبدأ الحتمية على المستوى الأخلاقي، فإتيقاه هي عرض لتفسير
فيزيائي شامل للكون والإنسان، بتفسير كل ما يوجد في الطبيعة بقوانينها مستبعدا
القول بالقضاء والقدر ووجود قوى خفية تسير العالم، أو هناك كائن مفارق ومتعالي عن
هذا العالم هو الذي يسيره.
[19] Spinoza, traité de l’autorité
politique, traduction, notice et notes de Madeleine Francès, préface de
Robert Misrahi, NRF Gallimard, 1954 pour le texte principal, la notice et les notes, 1978 pour la préface, p 1
Robert Misrahi, NRF Gallimard, 1954 pour le texte principal, la notice et les notes, 1978 pour la préface, p 1
[21] Spinoza, traité
théologico-politique, présentation et traduction et notes par Charles
Appuhn, GF Flammarion, paris 2009. P 85
22 يذكرنا هذا بالنقاش الفلسفي بين
متكلمة الإسلام حول الذات الإلهية وصفاتها" هل تنفصل الصفات عن الذات الإلهية؟" حيث تقرر المعتزلة أن القول بانفصال الصفات عن الذات
يفضي لزاما إلى القول بوجود جوهرين قديمين وهذا ما لا يستقيم مع التوحيد لذلك
اجترحوا القول إن الصفات عينها الذات، وهو ما يؤكد عليه سبينوزا حيث يجعل الصفات
لا توجد خارج الجوهر.
[23] Ethique 1, définition 4, p 21
[27] Ethique 2, prop 1 « la pensée est
un attribut de dieu, autrement dit dieu est choses pensante ». p 71
[28]
Ibid., prop 2 « l’étendue est attribut de dieu, autrement dit dieu
est chose étendue ».p 72
34. يختلف سبينوزا
في تصوره للفكرة الحقيقية عن ديكارت. فإذا
كان ديكارت يذهب إلى القول أن الفكرة تمثيلية، ليس هناك شيء حقيقي في ذاته بل هو
مرتبط بالحكم الذي تقوم به الذات عندما تربط الفكرة بالشيء الذي تمثله، وتثبت
مطابقة الفكرة لموضوعها، أي لما يوجد خارج الذات، حيث الحقيقة هي أن تكون الفكرة
ماثلة أمام الذات و هو ما يطلق عليه ميشيل فوكو بابيستيمي التمثيل (الفكرة ـ
اللوحة) .إن ديكارت لم يخرج عن التصور السائد للحقيقي الذي يجعل الحقيقي هو
الواقعي، أو مطابقة ما في الذهن لما في الواقع، فحقيقة الفكرة في توافقها مع
موضوعها الذي تمثله. فإن سبينوزا يؤسس للفكرة الحقيقية بوصفها مكتفية بذاتها، لا
تتحدد بالإحالة إلى شيء آخر خارجها؛ بل إن الحقيقة توجد في ذاتها يصل إليها الذهن
دون حاجة إلى شيء خارجي، وهو التصور الرياضي للحقيقة الذي سيمتد إلى تصوره للطبيعة
أو الجوهر، حيث نلفي سبينوزا قد أسس فكرة جوهر قائم بذاته أو طبيعة مكتفية بذاتها
ومستقلة تلزم عنها كل الأشياء ضرورة وليس عرضا من التصور الرياضي للحقيقة، و من
خلال هذا التصور الرياضي للطبيعة يبتعد سبينوزا عن كل فهم غائي للطبيعة، أو عن
فكرة الخلق الحر كما هي في الديكارتية. يتخلى إذن سبينوزا عن التصور السائد
للحقيقة في كتابه " رسالة في إصلاح الفهم" ويعيد بناء الحقيقة على أساس رياضي لم تعد فيه الحقيقة
غير علامة نفسها وعلامة الخطأ ، يقول في التعريف الرابع من الجزء الثاني من
الإتيقا " أعني بالفكرة المطابقة، فكرة، بما هي بمعزل عن موضوع ما، تحوز كل
الخصائص أو التسميات الباطنية لفكرة صحيحة" ص 70 من ترجمة أبون .
35 يقارن مارسيال غيرو في الدراسة التي قام بها لنسق ديكارت وسبينوزا بين
نظام الأول ونظام الثاني، حيث يجد أن الأول هو " نظام للعلل" ينطلق من الإنسان إلى
الله ثم العالم، يستنبط فكرة وجود كائن لامتناهي خالد من وجود كائن متناهي هو
الإنسان و بوجود إله ضامن للحقيقة فإن وجود العالم صار حقيقة مستنبطة من هذا
الكائن اللامتناهي، في حين أن نسق سبينوزا هو عبارة عن " نظام للأشياء"
ينطلق من الله كفكرة صحيحة قائمة بذاتها لكي يستنتج حقيقة جميع الموجودات الأخرى
من صفات و أحوال انطلاقا من مبدأ المحايثة، حيث العلة ليست مفارقة لمعلولاتها.
انظر
Martial Guéroult, Descartes selon
l’ordre des raisons.
Martial Guéroult, spinoza1, dieu,
Édition aubier- Montaigne. Paris 1968
[37] Deuleuze « Spinoza parle très souvent de l'essence, mais pour lui, l'essence
c'est jamais l'essence de l'homme. L'essence c'est toujours une détermination
singulière. Il y a l'essence de celui-ci, de celui-là, il n'y a pas d'essence
de l'homm ». http://www.webdeleuze.com/php/texte.php?cle=26&groupe=Spinoza&langue=1
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق