السبت، 26 مايو 2012

الشخـــــص في فلسفة كانط الأخلاقية



إعداد: ذ. عبدالإله دعـــال
تقديم:
أن نقارب مفهوم الشخص من مدخل محدد هو الفلسفة العملية الكانطية، معناه أن نبحر في أتون النسق النقدي الذي أسسه كانط كي نُبوأَ هذا المفهوم مكانته ضمن هذا النسق. وهو أمر لا يستقيم دون الانطلاق من اللحظة التي دشنت فيها الذات الحديثة بدايتها؛ أي اللحظة الديكارتية، بالمعنى الذي يسمح لنا أن نرصد الانتقال من الذات إلى الشخص في مقام أول. كما أن الصورة لن تكتمل إلا إذا شددنا الرحال بحثا عن مياسم مفهوم الشخص كما تجسد داخل فلسفة كانط الأخلاقية في مقام ثانٍ.
أولا: من الذات إلى الشخص
كانت الذات في الفكر الكلاسيكي تبحث عن نفسها في الموضوع، حيث جعل الفكر من العالم مبدأ نظامه ونطاق فاعليته. إلا أن الفلسفة الحديثة، منذ ديكارت وبركلي إلى كانط، أولت الذات اهتماما غير مسبوق وبوأتها مكانة أساسية لتغدو شرط العالم وشرط الوجود.
نظر ديكارت إلى الذات من مدخل معرفي أنطولوجي، واعتبرها مبدأ كل معرفة ومنطلقا للاستدلال على وجود العالم ووجود الله ؛ لكن ما أن يتعلق الأمر بالأخلاق، حتى تصبح الأطروحة الديكارتية حبيسة نزعة رواقية تجعل منها (أي الذات) تابعة للعالم خاضعة تحكمها الضرورة، لا حرية لها ولا فاعلية إلا داخل ما هو كائن، راضية به خادمة له. باختصار، تفقد هذه الذات فاعليتها كلما تعلق الأمر بالأخلاق. وهي الأطروحة عينها التي نسبت إلى اسبينوزا. إذ لم ير خصوم اسبينوزا في فلسفته إلا سلبا لحرية الذات وخضوعها لنظام الأشياء خضوعا حتميا؛ زاعمين أنه نفى عنها الحرية، وقرر انصياعها لنظام الكون. لكن كانط سيقلب هذه المعادلة، حين أدخل الذات في صلب المسألة الأخلاقية، ومنحها الأولوية[1]. أصبحت الذات مالكة مصيرها ومبدأ وأساس كل حديث عن الأخلاق. أليست هي من ينتج نظام القيم؟  والحال أن كون الانسان كائنا عاقلا يملي إرادته على عالمه ويفرض تبعية الأخلاق إليه، يطرح إشكال دوره في صنع تلك الأخلاق، ومدى قدرته على التأسيس لأخلاق توجه حركته في الوجود.
ما كان الشأن في المبدأ الأخلاقي أن يسكن قوانين العالم الطبيعي، وما كان كانط مقتنعا بأن نظام القيم يجد أساسه في الطبيعة؛ فهي محكومة بحتمية موضوعية، ومنطق المماثلة بين حتمية الطبيعة والحرية البشرية ضرب من الخطأ. وإذا ما كان من منطلق لتأسيس أخلاق بشرية تراعي خصوصية هذا الكائن داخل الوجود، فهو منطق الذات الإنسانية. يجب أن يبحث المبدأ الأخلاقي عن أساسه فوق العالم الطبيعي وفوق الذات الأمبريقية التي في كل حال تظل حبيسة التجربة. هل يعني هذا الكلام أن البحث عن المبدأ ذاك سيكون ضرورة ضمن أتون الميتافيزيقا؟ يفترض الجواب عن هذا السؤال بدءا، معالجة مسألة الذات العارفة، معالجة مقارنة بين الأطروحة الديكارتية، والأطروحة الكانطية كما تجسدت في "نقد العقل الخالص"؛ ومسألة الذات الأخلاقية كما تجلت في مطاوي الفلسفة النقدية الكانطية،  تثنيةً.
في معرض سعيه نحو وضع أسس المعرفة، امتطى ديكارت صهوة الشك كطريق لبلوغ شاطئ اليقين، فبدأ بهدم الأسس التي بنيت عليها المعرفة، وكانت المعرفة الحسية أحد الركائز التي سحب من تحت أرجلها بساط اليقين؛ مقابل المعرفة العقلية الخالصة التي هيمنت على كل أشكال المعرفة. خارجَ طريق العقل الخالص، يصبح سبيل اليقين غير سالك.
قاد الشك ديكارت إلى أرض صلبة يتعذر على الشك زحزحتها، هي الكوجيتو. يقول:" على الرغم من الافتراضات الأكثر شططا، فإننا لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من الاعتقاد بأن هذه النتيجة: "أنا أفكر إذن أنا موجود" صحيحة. وبالتالي أنها أهم وأوثق معرفة لمن يدير أفكاره بترتيب"[2]. وتلك كانت المسلمة البديهية الأولى التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. "الشيء العارف"  (la chose pensante) بلغة ديكارت، أو الذات العارفة، مهما حاول شيطان ماكر أن يخدعها[3]، لن يستطيع زحزحة حقيقة كونها تفكر وكون تفكيرها دليل على وجودها.
 كانت تجربة التفكير قوية بحيث اكتفت فيها الذات بالتفكير الخالص بمعزل عما يأتي عبر بوابة الحواس وما يرتسم عبر المخيلة، وبمعزل عن الواقع وعن الله وعن كل ما يقع خارجها. بل إن هذا التفكير عينه غدا شرط ومبدأ وجود الأنا ووجود ما يقع خارجها.
لكن الكوجيتو الديكارتي كان يحمل وجهين اثنين؛ أولهما، أنه عنصر أمبريقي[4]  كجزء من التجربة لا ينفصل عن الزمن؛ وثانيهما، أنه ترنسندنتالي يقع خارج  التجربة إذا ما رمنا النظر إليه بوصفه تفكيرا خالصا. هذه الازدواجية هي ما حمل كانط على نقد الأطروحة الديكارتية التي تزعم أن إثباتا أمبريقيا وحيدا لا ينال منه شك هو: "أنا موجود"[5]. وبيّن أن الأنا-أفكر( le je-pense) أو الكوجيتو، التي ترافق كل تمثلاتنا، ليست هي الأنا- أوجد ( le je-suis)التي تصدر عن الوعي بالوجود، كما أنها ليست الأنا- أوجد الأمبريقية التي تحضر في المظاهر المتعددة للوجود الحسي[6]. الأنا الخالصة مستقلة عن الواقع الموضوعي، ولكنها شرط معرفة هذا الواقع، عبر التوحيد الذي تقوم به لتمثلاتنا؛ أي عن طريق الوعي بهذه الأنا نفسها.  
ليس بالأمر اليسير أن نقبل مع ديكارت الفكر شرطا للوجود، والقول: "أنا أفكر إذن أنا موجود" أمر فيه نظر؛ إذ يكفي أن نطرح السؤال الأفلاطوني القديم: أين نوجد حين نفكر؟ حتى تنجلي الصعوبة. فالأنا المفكرة مستقلة عن عالم الظواهر، إلى درجة أننا حين نفكر نفقد كل الوعي بالوجود، أو كما تقول حنة أرندت، على لسان بول فاليري:" تارة أفكر، وتارة أوجد"[7]، فاصلا بين الأنا المفكرة والأنا الواقعية. والجواب عن السؤال أعلاه، لا يمكن أن يكون في المكان لأن هذه الأنا- المفكرة مستقلة عن المكان ولا تسكنه ؛ وكل جواب ينتمي إلى المكان هو فقط مما عودتنا عليه اللغة: " فحين نستحضر الزمان، فالمكان هو الذي يجيب"[8]. هل نفهم من ذلك أن الأنا المفكرة تسكن الزمان؟ مع كانط سيكون الجواب: وحدها الظواهر تخضع للزمان والمكان كصورتين قبليتين في الحساسية. إن الأنا المفكرة مستقلة عن الظواهر؛ وإذا كانت هذه الأنا شرط معرفتها، فلا يمكن أن نسلم أنها "تسكن " الزمان. لأنها هي نفسها شرط حضور الزمان. تبقى هذه الإشكالية مفتوحة على جميع الأصعدة، وإذا كانت الذات شرط قيام معرفة ما بالعالم الواقعي عبر خضوع الموضوع إليها، فإنها قاصرة عن سبر أغوار ما يتجاوز المحسوس، وحدود معرفتنا هي حدود المحسوس. لكن ثمة مجالا آخر يستثنى من هذه القاعدة؛ هو المجال العملي. وهنا يمكن الحديث مع كانط عن "ذات أخلاقية". ففي هذا المجال تصبح الذات في أقصى عنفوانها لأنها تستعيض عما يحدث في التجربة وتبني مبادئها الأخلاقية من تلقاء نفسها. وهذه "الأنا الأخلاقية أو الذات أو الماهية الخاصة بالإنسان، يسميها كانط الشخص".[9] وبالتالي سيضع كانط الذات الإنسانية في صلب المسألة الأخلاقية. ذات عبرها سيصير الوجود الإنساني خاضعا للعقل العملي الخالص الذي لا يعترف بالحدود التي رسمت للعقل التأملي.
 تكتسب الذات شخصيتها  من فكرة القانون الأخلاقي الذي يصدر عنها، ومن اقتران هذا القانون بمبدأ الاحترام الذي يجعل تحقق ذلك القانون ممكنا. لا يكون الشخص إذن ذاتا أخلاقية إلا إذا صدر عنه القانون الأخلاقي، وإلا بخضوعه من تلقاء ذاته لهذا القانون. فكل شيء يحدث في مملكة الذات الخالصة التي تصنع عالمها أخلاقيا. بهذا المعنى يمكن أن نتساءل عن السمات التي تجعل من الشخص ذاتا أخلاقية، وتجعل منه – تبعا لذلك - غاية في ذاته.
ثانيا: سمـــــــات الشخــص
لم تتأسس الأخلاقية الكانطية إلا على مبادئ ميتافيزيقية خالصة؛ مبادئ  تبحث عن أساسها في العقل الخالص وفي بنيته المفاهيمية المستقلة عن التجربة وعن التمثلات الذاتية التي ترافقها، رافضة أن تكون الطبيعة أو التجربة الواقعية منطلقا لها. لذلك كان من الطبيعي أن يكون المنطلق فكرةً ميتافيزيقيةً خالصةً هي: "الحرية "، التي يتعذر الحديث عن الإرادة دونها. إرادة سيتولد عنها مفهوم "الواجب" كتتويج لفعلها الذاتي ولاستقلالها عن عوراض التجربة العملية الواقعية. يتجسد الواجب، بوسمه إكراها يمارسه العقل على الإرادة الحرة، في الأوامر الأخلاقية المطلقة؛ وهي الأوامر عينها التي تجعل من الشخص مشرعا أخلاقيا لا يحفل بصفة "الشخصية" إلا باحترامه للقانون الأخلاقي الصادر عنه ككائن عاقل يتميز عن باقي الكائنات ببعده الأخلاقي. وعبر هذا الاحترام للقانون الأخلاقي يكتسب الشخص كرامة تعلي من شأنه وسط الكائنات تلك، وتجعله غاية في ذاته. على أن ما يجب التشديد عليه في هذا المقام هو طابع الترابط الذي يجمع بين تلك السمات؛ وليس في التقسيم الذي قمنا به في هذا المقام ما يدعو إلى الاعتقاد أنها مياسم منفصلة عن بعضها البعض. وإنما هو فصل اقتضته ضرورة منهجية على ضوئها نتدرج في تتبع تلك المياسم التي يستحيل أن نمسك بمقومات الشخص – عند كانط  - بمعزل عنها.
وإجمالا، يمكن اعتبار الحرية والإرادة، والواجب ورديفته المسؤولية، والاحترام والكرامة، سمات بغيرها لا يتحقق الشخص الأخلاقي الكانطي؛ بحيث لا يكون الشخص شخصا إلا إذا حمل سمات تعلو به فوق وجوده المادي في الطبيعة وفوق الكائنات الأخرى التي تنتمي إليها.
                                          I.  الحريــــــــــــة والإرادة
تشكل الحرية أساس الفلسفة العملية؛ من حيث كونها فكرة ميتافيزيقية خالصة، بدونها لا يمكن التسليم بقيام ميتافيزيقا ممكنة للأخلاق. إذ بمعزل عنها يظل كل اقتراب من الإرادة والعقل العملي أجوفا فارغا من كل أساس.
-1-
ليس غريبا أن تحتل الحرية مكانة مركزية ضمن كل حديث عن الشأن العملي؛ فها هو كانط يصرح بشكل مباشر في "نقد العقل الخالص" قائلا:" عملي هو، كل ما هو ممكن عبر الحرية".[10] لكن أمرها لا يستقيم، في المجال العملي، إلا في علاقتها بالإرادة وبالقانون الأخلاقي، من حيث كونها أساسا يشِّيد كل جنوح نحو الفعل الأخلاقي عند كل كائن عاقل.
إذا كان الشأن في الإرادة، من منظور خالص، أن تستقل بذاتها عن القانون الطبيعي الذي تحكمه علية بمقتضاها يمكن لظاهرة أن تتولد عن أخرى، وعما هو أمبريقي؛ فإن هذا الاستقلال هو ما يسمى "حرية" بالمعنى الدقيق للكلمة، أي المعنى الترسندنتالي[11]. ومادام موضوع العقل التأملي هو الطبيعة، وموضوع العقل العملي هو الإرادة؛ فإن مفهوم الحرية في علاقته بالجانب العملي ينطبق على فكرة الإرادة. من هنا يمكن الحديث – مع كانط - عن إرادة حرة[12]، وعن عقل مشرِّع  يمارس سلطته على ملكة الرغبة (la faculté de désirer). وملكة الرغبة هذه، معينة في ذاتها هي عينها الإرادة المستقلة عن الشروط الحسية وعن كل إحساس  أو مادة.[13] إنها إرادة محددة عبر تمثل لصورة  خالصة. وهذا التمثل هو القانون الأخلاقي. فإذا ما تساءلنا عن طبيعة هذه الإرادة المحددة عبر صورة القانون البسيطة( في استقلال  عن الشرط الحسي وعن قانون الظواهر الطبيعي)، فالجواب حتما سيكون: الإرادة الحرة.[14] أما المبدأ الخالص الذي يجب أن تصدر عنه هذه الإرادة، فهو الحرية. لأن كل تساؤل عن منبع اللامشروط (l’inconditionné) عمليا كمفهوم عقلي، يمر أولا عبر القانون الأخلاقي الذي لدينا وعي مباشر به، ثم في ما بعد ينفتح على مفهوم الحرية من حيث هي مبدأ تعيينه عمليا. يقول كانط: "إن  مفهوم الإرادة الخالصة  "يرِث" أصله  من القوانين العقلية الخالصة، على  غرار الوعي بالفهم الخالص الذي يجد أصله في المفاهيم النظرية الخالصة"[15]، وأول تلك المفاهيم مفهوم "الحرية". والحال أن الحرية كمفهوم عقلي خالص ممتنعة على العقل التأملي، لأنه يخضع لحتمية القوانين الطبيعية، ممكنة الإدراك في المضمار العملي. فوحدهما العقل العملي والقانون الأخلاقي قادرين على استضافتها، بل وفرضها؛ لأن الشخص بين إتيان الفعل الأخلاقي أو رفضه يعي أن شيئا ما عليه فعله  ضرورة أو الامتناع عنه؛ وهذا الأخذ والرد الذهني  يؤكد حريته. لكن الحرية دون قانون أخلاقي تبقى مجهولة[16].
إن الأشياء تحدث في مجال الطبيعة لأن عليها أن تحدث وفقا لقانون العلية؛ أما في المضمار العملي فالعقل هو من يختار الطريقة التي يجب أن تحدث بها الأشياء. وفي ذلك تأكيد على الحرية كمسلمة أساسية من مسلمات العقل العملي الخالص. يقول كانط في هذا الصدد: " إذا كان بِمُكن مبادئ العقل الأخلاقية أن تنتج أفعالا حرة، فإن قوانين الطبيعة ليس بمستطاعها ذلك. إن لمبادئ العقل الخالص، في استعمالها العملي وبالتأكيد في استعمالها الأخلاقي، واقعا موضوعيا".[17] وتبعا لذلك فالحرية كمبدأ من بين تلك المبادئ، وكخاصية للكائنات العاقلة، هي ما يصنع ما يسميه كانط " العالم الأخلاقي". والواقع أن الحرية تتخذ معنيين اثنين: سلبي من حيث هي استقلال للإرادة؛ وإيجابي من حيث هي تشريع صادر عن العقل.[18] وهذا التشريع هو عينه القانون الأخلاقي الذي " لا يعبر إلا عن استقلالية العقل العملي الخالص؛ أي عن الحرية. استقلاليةً هي نفسها الشرط الصوري لكل القواعد الأخلاقية التي عبرها وحدها تتوافق تلك القواعد مع القانون الأخلاقي الأسمى".[19] لكن الحرية لا تكتفي بصفة الكائن العقلي بل تتخذ عبر القوانين الأخلاقية وجودا موضوعيا. لأن القانون الأخلاقي لا يكتفي بالتحقق المنطقي العقلي، وإنما يتجسد "بعديا" في الواقع ليكتسب صفة الموضوعية ويصبح قانون علية عبر الحرية. ومن ثم يصير واقعا موضوعيا.[20]
لا يصدر الفعل الأخلاقي إلا عن إرادة حرة خالصة؛ ومن ثم لا ينبغي أن يلتبس مفهوم "الإرادة الحرة" بمفهوم "الاختيار الحر" (le libre choix) لأن الأخير لا يمكن أن تصدر عنه قوانين أخلاقية سامية وكونية. فهناك فرق بين ما هو عقلي خالص لذاته، وبين ما يصدر عن حب الذات مشروطا بمبدأي اللذة والمنفعة الذاتيتين. الفعل الأخلاقي غاية في ذاته عند كانط، وذاك وجه من أوجه الإرادة الحرة الخالصة من كل نزوع نحو التجربة الذاتية.
لكأن لسان حال كانط يجنح نحو القول بأنه إذا تعذر على الإنسان أن يريد وأن يفعل بحرية في الطبيعة المحكومة بقوانين تتجاوز إرادته، فإن ما يمكن التسليم به عقليا هو أن الحرية تحضر في أسمى تجلياتها حين يتعلق الأمر بالمجال العملي، حيث الانسان مالك مصيره، وبالتالي له القدرة على أن يزاول حريته نظرا وعملا.
الحرية إذن، هي مبدأ الأخلاقية (principe de la moralité)، وإلى كل كائن عاقل يملك إرادة يجب أن نضيف صفة الحرية ضرورةً، لأنه لا يستطيع الفعل إلا بناءً عليها[21]. الحرية بهذا المعنى، ليست إلا خاصية الإرادة عند الكائنات العاقلة؛[22] ومن فكرة الحرية انحدرت مسلمتان أساسيتان للعقل العملي؛ وهما خلود النفس ووجود الله.
-2-
ليست الحرية فقط تلك الفكرة الميتافيزيقية التي تجعل أمر الحديث عن أخلاق عملية خالصة ممكنا، بل هي أيضا تلك السلطة الذاتية التي يملكها الشخص، والتي تسمح له بالقيام بالفعل أو الامتناع عنه في استقلال عن كل ما يحدث خارج الذات. وهي – بهذا المعنى – لا تنفصل عن الإرادة: "فإذا كانت الإرادة نوعا من العلية تتصف بها الكائنات الحية، من حيث هي كائنات عاقلة، فإن الحرية ستكون هي الخاصية التي تتميز بها هذه العلية فتجعلها قادرة على إتيان الفعل في استقلال عن العلل الأجنبية التي تحددها؛ وذلك مثلما أن الضرورة الطبيعية هي الخاصية التي تتميز بها العلية لدى جميع الكائنات غير العاقلة والتي تجعل فاعليتها تتحدد بتأثير العلل الأجنبية عنها".[23] هذا التفسير – بالنسبة إلى كانط – يحدد الحرية بمعناها السلبي، إلا أن ثمة معنى إيجابيا للحرية أوسع وأكثر خصوبة، ينسلخ عن علية الطبيعة ويجد مقامه في حرية الإرادة، ومن خلاله تتحدد الحرية كشيء في ذاته متعذر المعرفة تـأمليا لكنه متعين عمليا عبر ما ينتج عنه من قانون أخلاقي كلي؛ أي "الواجب".
إن الحرية إذن، هي ذاك الاستقلال الذي ينعم به العقل العملي خارج حتمية الطبيعة وعليتها. فإذا ما اعتبرنا أن العقل العملي الخالص هو المشرع لكل قانون أخلاقي، وإذا كان كل تشريع – في المضمار العملي – يقتضي استبعاد ما هو أمبريقي؛ فإن الاستقلال الذي تتمتع به الإرادة عن علية القانون الطبيعي الذي يحكم الظواهر، هو ما يسمى "حرية" بالمعنى المطلق للكلمة؛ أي بالمعنى الترسندنتالي[24]؛  وعبره تتحدد الإرادة باعتبارها "إرادة حرة".
لا شك أن الحرية – تبعا لذلك – هي خاصية الكائنات العاقلة، لأن سمة الأخلاقية لا تنسب إلا إلى الكائنات العاقلة. فكيف يمكن إثبات هذه الخاصية ؟ يتمثل المدخل لإثبات حرية الكائنات العاقلة في أن العقل في الجانب العملي يعد مصدر مبادئه؛ إذ " بوصفه عقلا عمليا أو إرادة كائن عاقل، يجب أن يعد نفسه حرا"[25]. ذلك أن " كل كائن لا يمكنه أن يفعل فعلا إلا تحت تأثير الحرية، فهو من وجهة النظر العملية كائن حر حقا؛ أي أن جميع القوانين المرتبطة بالحرية ارتباطا لا ينفصم، تصلح للانطباق عليه تماما كما لو أن إرادته في ذاتها ... قد اعتُرِف بحريتها اعترافا صحيحا"[26]. وهذا يعني أن الحرية إن تعذر إثباتها طبيعيا، فلا مفر من افتراضها عمليا واعتبارها مسلمة أساسية لكل عقل عملي ولكل إرادة يراد لها أن تكون مصدرا خالصا لأي قانون أخلاقي يصدر عنها. فإذا علمنا أن كل قانون أخلاقي يصدر في صيغة " يجب عليك"؛ أي كتشريع، فإن الواجب سيكون الأساس الذي تتحدد من خلاله فكرة "الحرية". وإذا توقفنا عن أن نكون أحرارا، "توقفنا عن أن نكون مشرعين لأنفسنا،  ومن ثم توقفنا عن أن نكون ذوات أخلاقية".[27]
-3-
تتسم الإرادة الحرة بالاستقلال الذاتي، وهذا الاستقلال: " هو الخاصية التي تجعلها تُصدر قانونها بصرف النظر عن موضوعات الفعل الإرادي"[28]. فمبدأ استقلال الإرادة هو ما يمكّن من جعل القواعد الأخلاقية الذاتية كلية وضرورية؛ وتبعا لذلك يعتبره كانط المبدأ الأعلى والأوحد للأخلاق.
يقابل مبدأ "الاستقلال الذاتي" للإرادة، ما يسميه كانط "تبعية الإرادة"؛ أي عندما تبحث الإرادة عن القانون الذي يعينها في موضوع آخر غير القواعد التي تصدر عنها. وسواء كان ذلك الموضوع ينتمي إلى الميول أو إلى العقل من جانب الحساسية، فإنه لا يسمح إلا بقيام أوامر شرطية يعبر عنها في صيغة: " علي أن أفعل هذا لأنني أريد شيئا آخر".[29] ويقابل هذه الأوامر الشرطية، الأوامر الأخلاقية المطلقة التي لا تشترط نتيجة معينة للقيام بها، وصيغتها: " إن علي أن أفعل هذا أو ذاك، حتى وإن لم أرد شيئا آخر". مثل هذه الأوامر تكون غاية في ذاتها. وإذن، لا يمكن تصور أمر أخلاقي تكون فيه الإرادة تابعة للموضوع ومشروطة بالنتائج المترتبة عن القيام به. لذلك لا يمكن الاستغناء عن مبدأ "الاستقلال الذاتي للإرادة" لأن شرط الأخلاقية هو أن يصدر الأمر الأخلاقي عن الإرادة كمشرعة لنفسها، حتى يكون كليا وضروريا. هذا الاستقلال الذاتي هو عينه حرية الإرادة. يقول كانط بهذا الصدد: " فماذا عسى أن تكون حرية الإرادة إن لم تكن هي الاستقلال الذاتي، أي الخاصية التي تتميز بها الإرادة فتجعل منها قانونا لنفسها؟"[30].
الواقع أن الحرية والتشريع الذي يصدر عن الإرادة، كليهما ضرب من الاستقلال الذاتي، متضمنان بعضهما في بعض؛ لذلك يصعب تفسير أحدهما بالآخر.[31] ومع ذلك تبقى الحرية فرضية لا يمكن الاستعاضة عنها في المضمار العملي، لأنه حتى إن افترضنا غيابها في العالم المحسوس، فإن العالم المعقول يحتوي على الأساس الذي ينبني عليه العالم المحسوس كما تنبني تبعا لذلك قوانينه. والإنسان بانتمائه للعالميْن عليه أن يعرف أن قوانين العقل التي تستند إلى مبدأ "الحرية"، هي ما يجب أن يعتمده في مسلكه الأخلاقي. يقول كانط:" إن الحرية من حيث هي تعيين سلبي، مرتبطة في الوقت نفسه بملكة إيجابية، وعلى وجه التحديد بعلية للعقل نطلق عليها اسم الإرادة أي بملكة الفعل على نحو يجعل مبدأ الأفعال مطابقا للخاصية الأساسية لعلة عقلية، أو ما يجعله بعبارة أخرى مطابقا للشرط الذي يتيح للقاعدة الأخلاقية الذاتية التي ارتفعت إلى مستوى القانون أن تكون صالحة صلاحية شاملة."[32] في كل حال، تبقى الحرية - وإن لم نستطع إقامة الدليل عليها - فرضية مشروعة حتى يتسنى لنا تصور عقل عملي ممكن.
رغم ما يشوب استقلال الإرادة من غموض، فإن الضرورة العملية تفرض التشبث به كمبدأ أسمى للأخلاق، ولا يضير في ذلك القصور الذي يسم العقل في مجال الميتافيزيقا مادامت العبرة بانسجام العقل مع ذاته، ومادامت حدود العقل العملي هي أن يعايَن في ذاته ويحس بنفسه فيها[33].
مهما يكن من أمر الإرادة، فإن تصورها في شكلها الأخلاقي الخالص غير ممكن دون تصور استقلالها الذاتي. إذ " إن الإرادة الخيرة بإطلاق – على حد تعبير كانط – التي يجب أن يكون مبدؤها أمرا أخلاقيا مطلقا، ستكون عندئذ غير متعينة بالنسبة لجميع  الموضوعات، ولن تشتمل إلا على صورة فعل الإرادة بوجه عام، بوصفه استقلالا ذاتيا، أي أن صلاحية القاعدة الأخلاقية عند كل إرادة خيرة لأن تجعل من نفسها قانونا كليا عاما، هذه الصلاحية هي نفسها القانون الوحيد الذي تلتزم به إرادة كل كائن عاقل، دون أن تلجأ إلى أي دافع أو منفعة لتجعل منه مبدأ ترتكز عليه"[34]. يعني ذلك أن تصور إرادة خيرة بشكل مطلق خارج مبدأ الاستقلال الذاتي للإرادة أمر غير ممكن؛ أي أن الإرادة لا تكون خيرة بالأثر الذي تحدثه أو بما تحرزه من نجاح أو بتحقيقها للهدف الذي تتوخاه، بل "إنها لا تكون خيرة إلا عبر فعل الإرادة (le vouloir)؛ أي أنها تكون خيرة في ذاتها"[35]. وحده هذا الأمر يجعل من الإنسان شخصا خليقا بالسعادة وأهلا لها. وليس معنى ذلك أن يجعل من السعادة غايته، وأن يتجه نحو ما يجعل منه سعيدا؛ فهناك فرق بين أن يتجه المرء نحو السعادة ويجعل منها غايته، وبين أن يجعل من نفسه أهلا  لأن يكون سعيدا. لأن السعادة هنا ستصبح موضوع الإرادة وغايتها، في حين أن الشأن في الإرادة أن تكون غاية في ذاتها مستقلة عن كل موضوع وكل غاية خارجها، كون سعيها نحو غاية خارجها أن يجعل منها مشروطة؛ كيف لا، والسعادة غاية ذاتية لكل شخص.
يجب على الفعل الأخلاقي أن ينزع نحو الخير الأسمى، الذي لا يتحقق إلا بالجمع بين السعادة والفضيلة. يتوقف السعي نحو تحقيق هذه الغاية على العقل الذي "ينبغي أن يتجه مصيره الحق نحو بعث إرادة خيرة فينا لا تكون وسيلة لتحقيق غاية من الغايات، بل تكون إرادة خيرة في ذاتها"[36]. بهذا المعنى يجب على الإرادة أن تتأسس على مبادئ العقل الخالص القبلية وحدها. باختصار، على الإرادة أن تكون خالصة. لأن ذلك هو شرط تأسيس أخلاق ذات بعد كوني، دون أدنى اكتراث بالميول والبواعث الفردية التي تختلف من شخص إلى آخر، ودون خضوعها للموضوعات التي تقع خارجها. أن تكون الإرادة خالصة معناه: " أن تتحدد خارج البواعث والدوافع الأمبريقية، وفق مبادئ قبلية بحيث يمكن أن نسميها إرادة خالصة"[37]؛ وذاك - في الحقيقة – هو المنطلق الأساسي الذي تنهل منه الإرادة الأخلاقية كونيتها.
 تبعا لذلك، تكون إرادة ما خيرة، إذا كانت خالصة مستقلة وحرة. وهنا يصبح الاستقلال والحرية شرطي الحديث عن إرادة خيرة بالمعنى الخالص. ذلك أن القانون الذي سيصدر عن هذا النوع من الإرادة سيكون كليا وضروريا وخالصا. بهذا المعنى – وبه فقط –  يمكن أن يكون القانون الأخلاقي غاية في ذاته. باختصار، يمكن أن يكون واجبا بالمعنى الخالص.

                                             II.                     الواجــــــــــــــب و المســــــــــــؤولية
إذا ما سلمنا أن الواجب هو الإكراه الذي  يمارسه مشرع حر عبر القانون[38]، بحيث ينشطر الإكراه إلى صنفين: خارجي (يمارس على الذات من خارج الذات) وداخلي ( تمارسه الذات على نفسها)؛ أمكن أن نميز بين نوعين من الكائنات: كائنات عاقلة طبيعية، مثل الانسان الذي لا يستطيع ممارسة الإكراه على نوازعه الطبيعية؛ وكائنات عاقلة أخلاقية، كالإنسان القادر على ممارسة إكراه عقلي داخلي على ذاته؛ أي "الشخص".
-1-
إن الواجب في حقيقة أمره هو المعيار الذي تحدد من خلاله أخلاقية الفعل. فما كل فعل أخلاقي يعد أخلاقيا إلا إذا كان واجبا. وليس معنى ذلك أن يطابق في صورته الواجب أو أن يتوافق مع الواجب توافقا ظاهريا؛ بل عليه أن يصدر عن شعور بالواجب ويطابقه مطابقة باطنية[39].  فالتاجر الذي يحترم الأسعار – على سبيل المثال – لأن مصلحته تقتضي ذلك، كأن يسعى نحو أكبر عدد من الزبناء، يطابق فعله الواجب – هذا صحيح – لكن فعله لا يعتبر واجبا لأن الباعث عليه ليس إلا المصلحة الذاتية وحدها. فالفعل يتوافق مع الواجب ظاهريا لكنه لا يطابقه باطنيا. الفعل الأخلاقي الذي يمكن – بحسب كانط – عدّه واجبا هو الفعل الذي يصدر عن شعور باطني بالواجب متطابق ظاهريا مع الواجب[40]. هذا المبدأ - وفي نفس الوقت المعيار الذي نعيّر به الواجب – هو ما يضيف إلى الشكل المضمون الأخلاقي؛ لأن أي فعل أخلاقي يصدر عن مصلحة أو عن ميل لا  يعد واجبا. لسبب بسيط هو أنه لن يكون فعلا ذاتيا حرا وخالصا – بالمعنى الذي فهمناه من حرية الإرادة واستقلالها أعلاه – ولأن أفعالا تصدر عن مصلحة وعن ميل، ينقصها المضمون الأخلاقي، أما الفعل الأخلاقي الحر والخالص فلا يصدر عن ميل وإنما عن شعور بالواجب[41].
إن على الفعل الأخلاقي أن يكون غاية في ذاته – تماما كمصدره ، أي الإرادة – وألاّ يكون مشروطا بهدف يروم بلوغه. وهو يستمد صفته تلك، من القاعدة العقلية التي تقرر القيام به، والتي تجد مبدأها في الإرادة؛ لأن كل قاعدة لا تجد مبدأها الخالص في الإرادة لا تكون أخلاقية. إذ – من النافل القول – إن الفعل الأخلاقي يتخذ صورته العملية في الإرادة بشكل قبلي؛ ثم يتحقق بعديا في الواقع كفعل موافق للواجب[42]، بحيث يشترط فيه أن تتطابق الطوية والقصد مع الفعل، والصورة العقلية مع الفعل الواقعي. بهذا – وبهذا فقط – يمكن أن يحمل الفعل الأخلاقي قيمة أخلاقية في ذاته؛ وبالتالي يمكن عده واجبا. بعبارة أدق ، يجب أن يصدر عن محض احترام للقانون الأخلاقي الذي يسنه العقل العملي عبر الإرادة[43]، حتى وإن خالف ذلك الأمر الميول والمصالح الذاتية التي تحيط بالشخص من كل صوب وحدب. وذاك هو الشرط الذي يجعل من الفعل الأخلاقي فعلا خالصا.
-2-
لعل النتيجة، التي يمكن أن تنحدر مما سبق، هي أن الواجب هو ذاك الفعل الذي يصدر عن محض احترام للقانون الأخلاقي الصادر عن الإرادة بشكل خالص. فحين يصدر الفعل عن شعور بالواجب وفي توافق مع القاعدة الأخلاقية الذاتية، يمكن التسليم في هذه الحال بأن الواجب – في حقيقة أمره – ليس إلا الفعل الموافق لاحترام القانون العملي الصادر عن الإرادة[44] احتراما غير مشروط بالأثر الذي يحدثه الفعل خارجا، لأنه قد يكون غير منفصل عن الميول. وهذا الاحترام  يكون مشروطا فقط بالقانون المحدد صوريا في الإرادة بشكل موضوعي. ذلك أن القاعدة الأخلاقية تبقى ذاتية إن لم تتحول إلى قانون يسري على كل الكائنات العاقلة.
من هنا يمكن الحديث عن "الكونية" كصفة لكل تشريع أخلاقي ينبع من الإرادة؛ لكنها كونية تتشكل أولا في علاقة كل ذات بنفسها ، وتجعل من احترام القانون الذي لا يكون ذاتيا إلا إذا بقي في صيغة قاعدة، أمرا ممكنا فقط لأننا نشعر أنه صادر عن الذات. وهذا ما يكسب الشخص صفة "الشخصية"؛ أي ماهية كل ذات أخلاقية.
إن كل قانون أخلاقي - يعبر عنه في صيغة أمر أخلاقي- يتعين عليه أن يكون مطلقا. وهذه الأوامر الأخلاقية التي تنحدر من علاقة قانون موضوعي للعقل بإرادة ما، يعبر عنها  بفعل " يجب"[45]. ولأن الواجب ليس مجرد معطى وجداني – وذلك بسبب كونه صادرا عن العقل العملي الخالص – فإنه يصبح مبدأ كل الأحكام الأخلاقية. وبذلك يمكن وسمه بميسم "الكونية". فمادامت جميع التصورات الأخلاقية، من حيث المقر والمصدر، قائمة قبليا بشكل خالص في العقل، وأنه لا يمكن استخلاصها من أية معرفة تجريبية، فإن "في صفاء منبعها تكمن جدارتها التي تجعلها أسمى المبادئ العملية التي نهتدي بهديِها، وأننا في كل مرة نضيف إليها عنصرا تجريبيا، إنما نسلبها بالمقدار نفسه أثرها الأصيل ونجرد الأفعال الأخلاقية من قيمتها المطلقة"[46].
الواجب الأخلاقي الكانطي يكون غاية في ذاته لأنه غير مشروط بالنتيجة المترتبة عنه، كما أنه خال من كل منفعة و من كل لذة لأنه خالص بفعل صدوره عن الإرادة الخالصة بمعزل عن التجربة؛ يضاف إلى ذلك أنه كوني مطلق لأن منبعه المبادئ القبلية التي يقوم عليها العقل العملي. فكيف نتحقق من مصداقية الواجب الأخلاقية مادام كانط قد أودع هذه المصداقية في سريرة وطوية الذات الأخلاقية؟ بعبارة أخرى، كيف يمكن لهذه المصداقية الذاتية أن تتحول إلى مصداقية موضوعية؟
لعل هذا السؤال يجد جوابه في تأسيس كانط للأخلاقية عامة على مقتضى مبادئ العقل العملي الخالص التي توجد عند الكائنات العاقلة، لكنه جواب يبقى محدودا؛ أي أن الحكم على خيرية الفعل أو أخلاقيته من عدمها، يظل وقفا على الذات الفاعلة وحدها؛ لأنها هي وحدها التي يمكنها أن تعرف ما إذا كان الفعل قد أتى وفقا للقانون أم لا[47]، وهذا يعني أن ذاتا أخرى قد تتعرف على القانون الأخلاقي، لكن مصداقيته تظل ذاتية؛ وأن كون الواجب يجد أساسه في المبادئ القبلية للعقل، أمر يسمح للذوات الأخرى بأن تقيس مصداقيته عمليا من حيث صلاحيته للجميع؛ لكن معيار المصداقية يبقى ذاتيا محضا. لا أحد يمكنه أن يجادل في مظهر الواجب كفعل واقعي، لكنه كأمر أخلاقي عقلي خالص يصدر عن الإرادة الخيرة، تظل مصداقيته حبيسة السريرة والطوية الذاتية للشخص التي لا تنسبر (insondable).
يظل مشكل التحقق من أخلاقية الواجب قائما فعليا - شأنه في ذلك شأن فكرة الحرية - في علاقته بالقانون الأخلاقي والاستقلال الذاتي، لكن ذلك لا يمنع من إمكانية إيجاد صيغ عقلية كونية خالصة ومطلقة للواجب كأمر أخلاقي، أي صيغ تترتب على ما سبق، وفيها تتحول القواعد الأخلاقية الذاتية إلى قانون كلي وعام. وأولى تلك الصيغ: " لا تفعل إلا بما يتفق مع القاعدة التي تمكنك في نفس الوقت من أن تجعل منها قانونا عاما"[48]. وثانيتها: " افعل كما لو كان على قاعدة فعلك أن ترتفع عن طريق إرادتك إلى قانون طبيعي عام"[49]. وثالثتها: " افعل الفعل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص كل إنسان سواك بوصفها دائما وفي نفس الوقت غاية في ذاتها، ولا تعاملها أبدا كما لو كانت مجرد وسيلة"[50]. عبر هذه الأوامر الأخلاقية المطلقة تجاه الذات وتجاه الآخرين، يصبح كل شخص - ذاتا كان أم آخر – غاية في ذاته، عضوا ومشرعا في ما يسميه كانط: "مملكة الغايات"[51]. مشرع لأنه يشارك بصفته كائنا عاقلا في وضع القوانين الكلية العامة، وهذا الأمر – كما يقول كانط – هو: " ما يجعله صالحا لأن يكون عضوا في مملكة ممكنة للغايات"[52]. بهذا تتشكل صورة الكائن الأخلاقي، لكنها صورة لا تكتمل إن لم ترفق بالنية الأخلاقية الطيبة[53] التي تسبغ صفة "المشروعية" على عضويته في مملكة الغايات.
عموما، يمكن رصد المشترك بين تلك الصيغ التي تسم الواجب كأمر أخلاقي مطلق، في ثلاث سمات: أولاها، الكلية والشمول من حيث صورتها؛ وثانيتها، أنها تعين الكائن الأخلاقي كغاية في ذاته، من حيث مادتها؛ وثالثتها، أنها تحدد تحديدا تاما وغير مشروط كل فعل أخلاقي ممكن، من حيث طريقة مساهمتها في مملكة الغايات. بهذه السمات يتحقق القانون الأخلاقي في إطلاقيته ؛ بدءا من الصورة التي تتخذها القاعدة في الإرادة، مرورا بتعدد المادة موضوعا وغاية، وانتهاءً بالشمول والاكتمال في شكل قانون كلي عام[54]. أي أن الإرادة تصبح عبر القانون الأخلاقي الكلي والمطلق إرادة خيرة بإطلاق.
إن التأصيل الأخلاقي الكانطي لفكرة "الواجب" جعل من هذه الفكرة - التي  تشكل مادة كل إرادة خيرة حرة وخالصة – مبدأ الأخلاق في كونيتها؛ لذلك أمكن الحديث – ليس فقط عن واجب بصيغة المفرد – بل عن واجبات ليست في حقيقة أمرها إلا مرآة تعكس مسؤولية الشخص الأخلاقية تجاه ذاته وتجاه الآخرين، وأيضا تجاه باقي الموجودات العاقلة منها وغير العاقلة.
-3-
 لم تبق فكرة الواجب الكانطية حبيسة التنظير العقلي الخالص، وإنما همت هي مجال التفعيل على مستوى الممارسة؛ لذلك نعثر في نصوص كانط العملية على ترسانة من الأمثلة تحاول تقريب الواجب من مجال ممارسته. ولا شك أن في تمييزه بين قواعد الفعل والقوانين العقلية الخالصة التي تؤطرها، خير دليل على اهتجاسه بكيفية تفعيل القواعد الأخلاقية وتحويلها إلى أفعال تتجسد واقعيا. فإذا كانت كل غاية تفترض لزوما وسائل تحقيقها، فالشأن في الواجب أن يكون غاية في ذاته، والشأن في هذه الغاية أن تكون هي الباعث على الفعل سعيا نحو تحقق الفضيلة واقعيا[55]. هذا الواجب ليس فقط واجبا تجاه الذات، وإنما هو واجب تجاه الموجودات التي عداها؛ لذلك يمكن التمييز بين واجبات تجاه الذات وواجبات تجاه الآخر الإنسي، وواجبات تجاه باقي الموجودات التي تسكن العالم.
أ‌.                       واجبات تجاه الذات
يميز كانط في الإنسان بين بعدين[56]: بعد طبيعي من حيث كونه كائنا فيزيقيا؛ وبعد أخلاقي، من حيث هو كائنا أخلاقيا. وعلى ذلك تنقسم الواجبات إلى واجبات تجاه الذات ككائن فيزيائي، يمكن اختصارها في حفظ البقاء[57] وكل ما يتعلق بتنمية القدرات الجسدية والحفاظ على السلامة البدنية؛ بتجنب كل ما من شأنه أن يلحق ضررا بالحياة وبالصحة، كالانتحار وعدم الاعتدال في الأكل والشرب، والانغماس البهيمي في اللذات. بالمقابل يدعو كانط إلى إخضاع الرغبة للعقل، وهي عموما فكرة تجد أصولا لها عند فلاسفة سابقين. كما يدعو إلى تطوير القدرات والقوى الطبيعية لدى الإنسان وملكاته الذهنية والعقلية[58].
أما الشق الثاني، فهو الواجبات تجاه الذات ككائن أخلاقي[59]، وهي واجبات تروم الرفع من قيمة الإنسان الأخلاقية، والسعي نحو كماله الأخلاقي، بتمرين إرادته[60] وتصفية السريرة من كل غاية وكل سعي غير خالص، عبر سبر أغوار الذات. ذلك أن " معرفة الذات الأخلاقية، التي تتطلب النفاذ إلى أعماق القلب المستعصي سبرها، هي بداية الحكمة الإنسانية"[61]. كذلك لا يتردد كانط في تقديم وصايا – على طريقة رجال الدين – داعيا إلى تجنب الرذائل ما ظهر منها وما بطن (الكذب، البخل...إلخ)، نحو الغاية العظمى وهي الخير الأسمى. إلا أن هذا الخير الأسمى لا يتوقف عند الذات بل يتجه نحو الآخرين؛ بل إن الواجبات تجاه الآخرين هي واجبات تجاه الذات، وإلا كيف يمكن للواجب أن يكون كونيا.

ب‌.                    واجبات تجاه الآخرين
يعتبر كانط البحث عن سعادة الآخرين واجبا؛ وهي سعادة من جانبين؛ سعادة فيزيقية وسعادة أخلاقية[62]. كما يُلخّص الواجبات تجاههم كأشخاص في "واجب المحبة" الذي يجد أساسه – ليس في الميول – وإنما في قاعدة الإحسان والبر؛ وعلى ذلك يقسم واجب المحبة إلى ثلاث: البر بهم والإحسان إليهم، والاعتراف لهم بالجميل، والتعاطف معهم. باختصار يجتمع واجب المحبة وواجب الاحترام – بشكل حميمي - في الصداقة كأساس للعلاقة مع الآخر[63].
ج. واجبات تجاه باقي الكائنات
يرى كانط أن ضربا من الواجبات تجاه الكائنات الأخر هي واجبات تجاه الذات، لأن الإنسان من حيث هو شخص ومن حيث هو كائن طبيعي، يحمل في ذاته واجبات تجاه كائنات غير إنسانية محسوسة، كالحيوان والنبات وما يوجد في الطبيعة؛ وكائنات فوق-إنسانية غير مرئية، كالله والملائكة[64]. وعليه فكل نزوع نحو التدمير في الطبيعة أو العنف ضد الحيوان هو ضد مبدأ الواجب. كما أن فكرة الله العقلية تحتم واجبا من نوع آخر هو واجب احترام الدين.
ليس هذا النوع الأخير من الواجبات إلا نوعا من تمديد المفاهيم (amphibologie des concepts) خلاله يوسع كانط دائرة الواجب إلى الكائنات غير الإنسانية. وهو في كل حال يحمل في ثناياه إرهاصات لفلسفة بيئية ممكنة؛ وإن كان يدخل الحيوانات ضمن صنافة "الأشياء" ضمنيا فلا يسند لها لا واجبات لها ولا حقوق ولا يعدها "أشخاصا" مادام الإلتزام الأخلاقي لا يخص إلا "الأشخاص". وبالتالي يتخذ الواجب صفة إلتزام أخلاقي تجاه الكائنات البشرية وتجاه باقي الكائنات مهما كانت طبيعتها.
إجمالا يمكن القول إن الواجب كأمر أخلاقي يعكس طابع المسؤولية التي يتحملها الشخص تجاه ذاته وتجاه ما يحيط به؛ مسؤولية يتبدى من خلالها اهتجاس كانط ببناء فلسفة أخلاقية تتوافق وطبيعة الكائن العاقل وتنسجم مع وضعه داخل العالم الذي يتقاسمه مع كائنات طبيعية أخرى.
كتب كانط في خاتمة " نقد العقل العملي" قائلا: " شيئان يملآن الوجدان اعجابا وإجلالا، يتجددان ويزدادان على الدوام كلما أمعن الفكر التأمل فيهما: السماء المزدانة بالنجوم من فوقي والقانون الأخلاقي في داخلي."[65] في قول كانط هذا ما يبين مكانة القانون الأخلاقي في نفسه وفي فلسفته؛ فإذا علمنا أن الواجب أو القانون الأخلاقي هو ما يعلي من قيمة الإنسان ويجعله أسمى من باقي كائنات الطبيعة، أمكن أن نعتبر الواجب تلك القوة الداخلية التي تجعل الكائن الإنساني يهفو نحو الأخلاق، وما يجعله – تبعا لذلك – شخصا يستحق الاحترام والكرامة.
                                      III.  الاحتــــــــــــــرام والكــــــــــرامة
لا ينفصل الاحترام والكرامة عن الواجب، بل إن الاحترام الذي يُكنُّه الشخص للواجب كقانون أخلاقي هو ما يجعل منه محط احترام، وما يترتب عنه حظوته بالكرامة؛ لأن الواجب هو ما يميز الكائن العاقل ويجعله غاية في ذاته. ومن ثم تمتح قيمة الشخص، من حيث هو كائن أخلاقي، من التزامه الأخلاقي تجاه ذاته وتجاه الآخرين. لكن كيف نفهم طبيعة العلاقة التي تربط الواجب كقانون أخلاقي بالاحترام من حيث هو احترام مزدوج: احترام داخلي للقانون الأخلاقي، واحترام خارجي - يترتب عن الأول - يكتسبه الشخص من الآخرين؟ وكيف نفهم صفة الكرامة التي يحظى بها الشخص من حيث كونه كائنا عاقلا يوجد كغاية في ذاته ؟
-1-
يتبدى احترام القانون الأخلاقي في خضوع الذات إلى نفسها باعتبارها حرة مشرعة لهذا القانون؛ وعبر هذا الاحترام تتمتع الذات بصفة "الشخصية". لكن من أين يصدر هذا الاحترام للقانون الأخلاقي؟ وما هي طبيعته؟
إن "احترام القانون الأخلاقي إحساس يصدر عن مبدإٍ عقلي، وهذا الإحساس هو الوحيد الذي نعرفه قبليا، ونستطيع إدراك ضرورته"[66]، وهو إحساس يتميز نوعيا عن المشاعر التي تتصل بالميل أو الخوف. كما أنه شرط الخضوع للقانون؛ إذ أن ما أعرفه معرفة مباشرة كقانون أخضع له، إنما أعرفه بنوع من الاحترام يدل على الشعور بتبعية إرادتي لقانون ما دون وساطة أي مؤثر حسي. وهذا التحديد المباشر الذي تتحدد فيه الإرادة بواسطة القانون، يكون الشعور به هو الاحترام نفسه؛ بحيث يعتبر الاحترام أثرا للقانون على الذات لا علة له[67]. تبعا لذلك يكون موضوع الاحترام هو القانون وحده. القانون الذي نفرضه على أنفسنا بما هو قانون ضروري في ذاته. أما احترام الشخص فما هو إلا نتيجة لاحترام القانون.
إذا كان من المتعذر أن ننسب للإرادة موضوعا ينتمي إلى الميول قد يشكل باعثا على الفعل، فإنه لا يبقى لتحديد هذه الإرادة موضوعيا إلا القانون الأخلاقي الذي يصدر عنها؛ أما ما يحددها ذاتيا، فهو الاحترام الخالص لهذا القانون، لأنه فيصل التفرقة بين ميولنا الطبيعية المقيدة بحبنا لذواتنا التي لا ينجم عنها إلا إحساس باثولوجي؛ وبين ما يصدر عن إرادتنا الخالصة من احترام للذات بسبب خضوعها للقانون الأخلاقي الذي يأتي نتيجة إكراه يمارسه العقل على تلك الإرادة. في الحالة الأولى تبقى الحرية ذاتية، أما في الحالة الثانية – أي عبر القانون – فإنها تصبح موضوعية، لأنها تنتقل من حب الذات إلى إكراه الذات؛ الأمر الذي ينجم عنه إحساس بالاحترام تجاهها. وهذا الإحساس في حقيقة أمره ليس إلا احترام القانون الأخلاقي[68]. وهو احترام لا ينطبق على الكائنات التي  ليست لها ميول حسية، لأن قاعدة الإكراه والمقاومة التي تمارسها الذات على نفسها تنتفي. يقول كانط بهذا الصدد:" إن احترام القانون لا يمكن أن ننسبه لكائن أسمى، أو كائن لا تعيقه الحساسية، كائن لن تشكل الحساسية – تبعا لذلك – حاجزا أمام العقل العملي عنده"[69]. احترام القانون الأخلاقي من طبيعة خاصة، بحيث يبدو أنه ينتمي إلى الطبيعة العاقلة على سبيل الحصر.
إذا كان احترام القانون لا ينطبق على الكائن الأسمى، فإنه لا ينطبق أيضا على الأشياء ولا على العجماوات. يقول كانط في هذا المعرض:" إن الاحترام لا ينطبق إلا على الأشخاص، وليس على الأشياء. فبمكن الأشياء أن تؤجج ميولنا، بل وحتى الحب إذا تعلق الأمر بالحيوانات (الخيول، الكلاب...إلخ)، أو الخوف الذي يقع داخلنا بسبب البحر أو البركان أو حيوان مفترس؛ لكن ذلك ليس من الاحترام في شيء."[70] تأتي قيمة الاحترام من كونه يجدف ضد الميول والعواطف؛ فهو ليس إحساسا باللذة – وما ينبغي له – بل إن الإنسان يكتسبه على مضض، عبر مقاومة داخلية لا هوادة فيها؛ لذلك لا نجد القانون الأخلاقي محط احترام من طرف الجميع. وحده الإنسان المستقيم الذي يقوى على إكراه ذاته ووضع حد لميوله، يقوى على احترام القانون، فيستحق بذلك أن يكون موضع الاحترام؛ وبالتالي يستحق أن يكون شخصا.
إن احترام القانون الأخلاقي – بهذا المعنى – هو الباعث الأخلاقي الذي لا يقبل الجدال، من حيث هو إحساس لا موضوع له سوى هذا القانون الأخلاقي.[71] فإذا ما اعتبرنا أن احترام القانون واجب من بين الواجبات، فإنه يصبح واجبا تجاه الواجب[72]. إذ باحترام القانون الأخلاقي ترتفع قيمة الشخص إلى درجة تفوق وجوده ككائن طبيعي، إلى اعتباره كائنا أخلاقيا. بهذا الاحترام إذن، يسمو الكائن الإنساني فوق طبيعته ويصبح أهلا للاحترام  والكرامة. بذلك تصبح فكرة "الكرامة" التي يحملها كل شخص في ذاته هي الدافع على الاحترام.
-2-
ليس الشخص غاية في ذاته فقط لأنه كائن عاقل يملك ملكة تميزه عن باقي الكائنات في الطبيعة، لأن ذلك يكسبه فقط ثمنا سوقيا من خلاله يعلو على تلك الكائنات؛ وليس غاية في ذاته – أيضا - فقط لأنه يخضع نفسه لقانون أخلاقي ويحترمه؛ ولكنه كذلك لأنه يملك إرادة مشرعة. إذ "ينبغي دائما أن تعد إرادة الكائن العاقل في الوقت نفسه إرادة مشرعة، فلو كان الأمر على خلاف ذلك لتعذر على الكائن العاقل أن يكون غاية في ذاته."[73]  لأنه من حيث قدرتنا على التشريع داخليا، نسمو إلى درجة عليا من التقدير الذاتي إحساسا بقيمتنا الداخلية التي لا يُقَدَّر الإنسان – نسبة إليها – بثمن، وبفضلها "يملك كرامة غير قابلة للاستلاب يستلهمها من احترامه لذاته"[74]، ومن احترامه للقانون الذي يضعه لنفسه.
إن الأشياء تقدر بثمن، لكن ذلك لا ينطبق على الكائنات العاقلة التي توجد كغاية في ذاتها. وهذا ما يؤكده كانط في محطات عدة: "فالإنسان وحده – ومعه كل مخلوق عاقل – يوجد كغاية في ذاته"[75]؛ وهو بذلك يختلف عن الأشياء، لأن " لكل موجود في مملكة الغايات إما ثمن أو كرامة: فما له ثمن، من الممكن أن يستبدل بشيء آخر مكافئ له؛ أما ما يعلو فوق كل ثمن، وما لا يسمح – تبعا لذلك – بأن يكافئه شيء فإن له كرامة"[76].  فكرة "الكرامة" إذن تنحصر في الإنسان بوصفه كائنا أخلاقيا؛ أي شخصا يملك عقلا عمليا يملي على إرادته الطريق الذي تسلكه أخلاقيا، من حيث هو كائن مشرع؛ وبذلك يسمو فوق كل تثمين.  وفي ذلك يقول كانط:" يسمو الإنسان فوق أي ثمن لكونه شخصا – أي ذاتا لعقل عملي أخلاقي – وهو من حيث كونه كذلك، يجب أن يقدر لا كوسيلة  تحقق من خلالها غايات الآخرين، ولا حتى غاياته الخاصة، بل كغاية في ذاته؛ وهذا يعني أنه يملك كرامة (قيمة سامية ومطلقة)، من خلالها يجبر الكائنات العاقلة الأخرى في العالم على احترامه، على نحو تتحدد قيمته مع أي عضو من تلك الكائنات على قدم المساواة"[77]. وعليه يجب أن يعلي من شأنه، وأن يسمو فوق طبيعته الفيزيائية، وذلك بأن يجعل من نفسه كائنا أخلاقيا، وألّا يفقد شخصيته – ما دامت الشخصية هي ما يوقظ فينا احتراما لذواتنا[78] - وألا يفقد انتماءه إلى الإنسانية بأن يُعزّ ويقدر ذاته تقديرا، وأن لا يجعل من نفسه عبدا للآخرين، أو وسيلة في أيديهم؛ لأن : "من جعل من نفسه دودة تزحف على الأرض، فلا يجب أن يشتكي إن داسته الأقدام!"[79]
خاتمة:
لقد حاول كانط الإعلاء من شأن الإنسان فوق نوازعه الطبيعية؛ وسعى إلى ذلك مستندا إلى ما يملكه هذا الكائن وما يستطيعه في الوقت نفسه نحو عالم كان فقط يسكن خانة اليوتوبيا، وألقى على الإنسان مسؤولية الوجود والموجودات عبر هذه الأخلاقية؛ ومعه بدت "شخصية" الإنسان الطريق الوحيد لبناء غد أفضل. إذ يرفع شعار الحرية والعقل ويعلي من شأن الذات الإنسانية – ليس على طريقة ديكارت – ولكن هذه المرة من طريق آخر هو طريق الأخلاق، وهذا ما يفسر الأصوات التي ارتفعت منادية بالعودة إلى كانط. فهل نجح الشخص الكانطي في تغيير منحى الأخلاق كما دأبت عليها الفلسفة الأخلاقية قبله، أم أنه ظل حبيس "ما يجب أن يكون" غير عابث بما هو كائن؟ هل استطاعت الأخلاق الكانطية أن تتجسد عند الجميع على نحو كوني أم أن ما هو عقلي عجز عن أن يصبح واقعيا؟ أسئلة جوابها يفرض أن ننتقل إلى محطة ثالثة، هي نقد الشخص الأخلاقي الكانطي.



[1] Ferdinand Alquié, Introduction à la lecture de la Critique de la Raison Pratique, in Emmanuel kant, Critique de la Raison Pratique, Cérès Editions, Tunis, 1995 , XI.
[2]  ديكارت، رونيه، مبادئ الفسفة، ترجمة عثمان أمين، دار الثقافة، القاهرة 1959، ص56.
[3] Descartes, Méditations Métaphysique, op. cit, p 67.
[4]  لا تحدث المعرفة إلا من مصدرين اثنين: الحساسية والفهم. الأولى تقدم الموضوعات، والثاني يسمح بتعقلها وإصدار الحكم بشأنها. فيضاف إلى التلقي (réceptivité) التلقاء (spontanéité)؛ وإلى "البعدي" يضاف "القبلي". إن الفهم دون حدس يبقى مجرد فكر خالص ولا يرقى إلى درجة المعرفة؛ والحدس دون فهم يسقط في العماء الذاتي. باختصار "الحدوس دون مفاهيم عمياء، والمفاهيم دون حدوس جوفاء". كل من الحدس والفهم يلزمه شيء ما ينتمي إليه قبليا؛ أي صورتي الزمان والمكان كي يصبح أمر التلقي ممكنا في الحساسية، والمقولات التي تنتمي إلى ملكة الفهم. وكل من صورتي الزمان والمكان والمقولات قبلية. يسمي كانط كل ما هو قبلي "خالصا"؛ وكل ما يملأُه ويجعل الموضوع يوجد من بعديٍّ، يسميه "أمبريقي". الزمان والمكان خالصين، والألوان والأصوات ومعطيات الحس عامة أمبريقية. المقولات، كالجوهر والعلة، خالصة؛  أما الأشياء الواقعية والعلاقات السببية والأجساد والحركات، فأمبريقية.

[5] Kant. Emmanuel, Critique de la Raison Pure, trad. A.Tremesaygues et B.Pacaud, Edition PUF, Paris, 2004,  p 200.
[6] Jaspers, Karl, Les Grands Philosophes, 3.KANT, op.cit, Paris, p 276.
[7] Arendt, Hannah, La Vie de l’Esprit, op.cit, P 288.
[8] Bergson, Henri, La Pensée et le Mouvement, Paris, P 5. In : Arendt, Hannah, La Vie de l’Esprit, Edition Puf, trd Lucienne Lotringer, Paris 1981, P 290.
[9] Heidegger, Martin, Kant et le problème de la métaphysique, Trad. Alphonse De Waelhens  et Walter Biemel, édition Gallimard, 1953, P 213.
[10]  نفسه.
[11] Kant Emmanuel, Critique de la Raison Pratique,  Cérès Editions, Tunis, 1995, P 40.                                     

[12]   نفسه.
[13] Deleuze, Gilles, la Philosophie Critique de Kant, édition PUF, Paris, 3ième édition 2008, 43.
[14] [14] Ferdinand Alquié, Introduction à la lecture de la Critique de la Raison Pratique, in Emmanuel kant, Critique de la Raison Pratique, Cérès Editions, Tunis, 1995 , XI.
[14]  ديكارت، رونيه، مبادئ الفسفة، ترجمة عثمان أمين، دار الثقافة، القاهرة 1959، ص56
[14] Descartes, Méditations Métaphysique, op. cit, p 67.
[14]  لا تحدث المعرفة إلا من مصدرين اثنين: الحساسية والفهم. الأولى تقدم الموضوعات، والثاني يسمح بتعقلها وإصدار الحكم بشأنها. فيضاف إلى التلقي (réceptivité) التلقاء (spontanéité)؛ وإلى "البعدي" يضاف "القبلي". إن الفهم دون حدس يبقى مجرد فكر خالص ولا يرقى إلى درجة المعرفة؛ والحدس دون فهم يسقط في العماء الذاتي. باختصار "الحدوس دون مفاهيم عمياء، والمفاهيم دون حدوس جوفاء". كل من الحدس والفهم يلزمه شيء ما ينتمي إليه قبليا؛ أي صورتي الزمان والمكان كي يصبح أمر التلقي ممكنا في الحساسية، والمقولات التي تنتمي إلى ملكة الفهم. وكل من صورتي الزمان والمكان والمقولات قبلية. يسمي كانط كل ما هو قبلي "خالصا"؛ وكل ما يملأُه ويجعل الموضوع يوجد من بعديٍّ، يسميه "أمبريقي". الزمان والمكان خالصين، والألوان والأصوات ومعطيات الحس عامة أمبريقية. المقولات، كالجوهر والعلة، خالصة؛  أما الأشياء الواقعية والعلاقات السببية والأجساد والحركات، فأمبريقية.
[14] Kant. Emmanuel, Critique de la Raison Pure, trad. A.Tremesaygues et B.Pacaud, Edition PUF, Paris, 2004,  p 200.
[14] Jaspers, Karl, Les Grands Philosophes, 3.KANT, op.cit, Paris, p 276.
[14] Arendt, Hannah, La Vie de l’Esprit, op.cit, P 288.
[14] Bergson, Henri, La Pensée et le Mouvement, Paris, P 5. In : Arendt, Hannah, La Vie de l’Esprit, Edition Puf, trd Lucienne Lotringer, Paris 1981, P 290.
[14] Heidegger, Martin, Kant et le problème de la métaphysique, Trad. Alphonse De Waelhens  et Walter Biemel, édition Gallimard, 1953, P 213.
[14]  نفسه.
[14] Kant Emmanuel, Critique de la Raison Pratique,  Cérès Editions, Tunis, 1995, P 40.                                                                                

[14]   نفسه.
[14] Deleuze, Gilles, la Philosophie Critique de Kant, édition PUF, Paris, 3ième édition 2008, 43.
نفسه.
[14] Kant Emmanuel, Critique de la Raison Pratique,  Cérès  Editions, Tunis, 1995, P 42.
[14]  المصدر نفسه، ص 43.
[14] Kant, Emmanuel, Critique de la Raison Pure, op.cit, P 545.
[14]  Kant Emmanuel, Critique de la Raison Pratique, op.cit, P 48.
[14]  المصدر نفسه، ص 48.
[14]  المصدر نفسه، ص 69.
[14] Kant, Emmanuel, Fondements de la Métaphysique des Mœurs, op.cit, p 142.
[14]  المصدر نفسه، ص 141.
نفسه.
[15] Kant Emmanuel, Critique de la Raison Pratique,  Cérès  Editions, Tunis, 1995, P 42.
[16]  المصدر نفسه، ص 43.
[17] Kant, Emmanuel, Critique de la Raison Pure, op.cit, P 545.
[18]  Kant Emmanuel, Critique de la Raison Pratique, op.cit, P 48.
[19]  المصدر نفسه، ص 48.
[20]  المصدر نفسه، ص 69.
[21] Kant, Emmanuel, Fondements de la Métaphysique des Mœurs, op.cit, p 142.
[22]  المصدر نفسه، ص 141.
[23]  كانط، إمانويل، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة عبد الغفار مكاوي، منشورات الجمل، القاهرة، ط1 2002، ص 145.
[24] Kant, Emmanuel, Critique de la Raison Pratique,  Cérès Editions, Tunis, 1995, P 40.                                                                                                      


[25]  المصدر نفسه، ص 150.
[26] كانط، إمانويل، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، م.م.س، ص 149.
[27] Deleuze, Gilles, la Philosophie Critique de Kant, édition PUF, Paris, 3ième édition 2008, p 48.
[28] كانط، إمانويل، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، م.م.س، ص 131.
[29]  المصدر نفسه، ص 133.
[30]  المصدر نفسه، ص 146.
[31] المصدر نفسه، ص 154.
[32]  المصدر نفسه، ص 171
[33]  نفسه.
[34]  المصدر نفسه، ص 141.
[35]  المصدر نفسه، ص 39.
[36]  المصدر نفسه، ص 43.
[37] Kant, Emmanuel, Fondements de la Métaphysique des Mœurs, Trad. Victor Delbos, Cérès Editions, Tunis, 1994, p 57.
[38] Kant, Emmanuel, Métaphysique des Mœurs II, Trad. Alain Renaut, Flammarion, 1994, P 217.
[39] Kant, Emmanuel, Fondements de la Métaphysique des Mœurs, op.cit, p 68.
[40] « Agir par devoir , conformément au devoir ».
[41]  المصدر السابق، ص 68.
[42]  كانط، إمانويل، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، م.م.س، ص 51.
[43]  ليست الإرادة في حقيقة أمرها سوى العقل العملي؛ "إذ لما كان العقل مطلوبا لأجل استنباط الأفعال من القوانين، فليست الإرادة سوى عقلا عمليا".  كانط، إمانويل، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، م.م.س، ص 77.
[44]  نفسه.
[45]  كانط، إمانويل، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، م.م.س، ص 78.
[46]  المصدر السابق، ص 75.
[47]  سليمان، جمال أحمد محمد ، إيمانويل كانط: أنطولوجيا الوجود، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت 2009، ص 419.
[48] كانط، إمانويل، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، م.م.س، ص 93.
[49]  المصدر السابق، ص 94.
[50]  المصدر نفسه، ص ص، 108، 109.
[51]  المصدر السابق، ص 116.
[52]  المصدر نفسه، ص 121.
[53]  نفسه.
[54]  المصدر نفسه، ص ص، 123، 124.
[55] Kant, Emmanuel, Métaphysique des Mœurs II, op.cit,  p 230.
[56]  هذا التمييز  يجد جذوره عند روسو في" أصل التفاوت".
[57]  المصدر السابق، ص 273.
[58]  المصدر نفسه، ص 306.
[59]  المصدر نفسه، ص 283.
[60]  المصدر نفسه، ص 227.
[61]  المصدر نفسه، ص299.
[62]  المصدر السابق، ص ص، 236، 237.
[63]  المصدر نفسه، ص 342.
[64]  المصدر نفسه، ص 301.
[65]  كانط، إمانويل، نقد العقل العملي، مصدر مذكور سابقا، ص 269.
[66] Kant Emmanuel, Critique de la Raison Pratique, op.cit, p155.
[67] كانط، إمانويل، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، م.م.س، ص 53.
[68]  المصدر نفسه، ص 116.
[69] Kant, Emmanuel, Critique de la Raison Pratique, op.cit, p119.
[70]  نفسه.
[71]  المصدر السابق، ص 122.
[72] Kant, Emmanuel, Métaphysique des Mœurs II, op.cit,  p 248.
[73]  كانط، إمانويل، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، م.م.س، ص ص، 118، 119.
[74]  Kant, Emmanuel, Métaphysique des Mœurs II, op.cit,  p 293.
[75] Kant, Emmanuel, Critique de la Raison Pratique, op.cit, p137.
[76]  كانط، إمانويل، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، م.م.س، ص 119.
[77] Kant, Emmanuel, Métaphysique des Mœurs II, op.cit,  p 291.
[78] Kant, Emmanuel, Critique de la Raison Pratique, op.cit, p138.
[79] Kant, Emmanuel, Métaphysique des Mœurs II, op.cit,  p 294

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق